أكاسيد السياسة
بمناسبة الحديث الساذج والظالم عما يسمى
بالمصالحة
يقال : لا
توجد في السياسية عداوة دائمة ولا صداقة دائمة ولكن مصالح دائمة .. فهل هذا المبدأ
صحيح بالمطلق؟ .. يمكن أن يكون صحيحا إذا صدقنا بوجود صراع سياسي بحت خال أو شبه
خال من الشوائب الأخرى .. والصراع السياسي الأقرب إلى هذا هو صراع سلمي بين أفراد
أو جماعات سياسية أحزاب مثلا وموضوعه كرسي السلطة (الانتخابات الأمريكية أقرب
مثال) .. ولكن السياسة (وخاصة المطهمة بالعنف) مثل الحديد الذي لا يوجد في الطبيعة
بحالة نقية بل يوجد على هيئة مركبات كيميائية .. ومن هذا التشبيه يمكننا الحديث عما
يمكن تسميته بأكاسيد السياسة .. أي السياسة في مركباتها الجغرافية والتاريخية
والدينية والاجتماعية والاقتصادية .. وفي أكاسيد السياسة هذه ثمة عداوة إن لم تكن
دائمة فمتجددة أو طويلة الأجل.
العداوة الدائمة حقيقة
ليتضح
المقال بالمثال ندرس تاريخ علاقة أوروبا منذ ما قبل هانيبال مع ما يعرف الآن
بالوطن العربي .. فهذه العلاقة في إطارها العام على مدى هذه القرون المتطاولة
علاقة عدائية على أقصى وأقسى درجات العداوة : إذا قويت أوروبا زحفت جنوبا وإذا قوي
الجنوب زحف شمالا .. وكم كرر التاريخ نفسه لينبهنا إلى هذه الحقيقة المرة .. قارن
في المقابل وعلى سبيل المثال العلاقة بين مصر وبرقة كعلاقة تمثل نموذجا لحسن
الجوار وتبادل المصالح .. إنها المقارنة بين سبتيموس سفيروس وشيشنق على الترتيب ..
هذه المقارنة تؤكد على غلبة العداء في العلاقة الأولى على صراع المصالح .. أما العلاقة الثانية فهي تؤيد أحمد شوقي
وتجيب على سؤاله الذي طرحه في قصيدته في رثاء عمر المختار :
ما ضر لو جعلوا العلاقة في غد بين الشعوب مودة وإخاء ؟
لا للمصالحة .. نعم للمعالجة
إذا رأيت
رجلين يتشاجران فهل تطلب منهما التوقف وأن يحتضن كل منهما الآخر وتكتفي بهذا
وتنصرف؟ .. ربما إذا مارست شيئا من الضغط سوف ينفذان أمرك ولكن بمجرد أن تنصرف سوف
يعودان للشجار والعنف مرة أخرى .. التصرف المتوقع والمجدي ليس الاكتفاء بدعوتهما
للعناق وللتسامح بل سؤالهما عن سبب شجارهما .. ومن ثم يكون البحث في معالجة الأمر
وقد تجد نفسك منضما إلى أحدهما إذا اقتنعت بعدالة أو وجاهة موقفه .. فالناس لا
تتقاتل بلا مبرر وخاصة إذا كان الاقتتال بين جماعات كبيرة ولفترات زمنية متطاولة
وهو ما يمكن تسميته بالصراع الأهلي أو الحرب الأهلية .. ولا يدفع بنظرية المؤامرة
والتدخل الخارجي الذي لا يكون ولا ينجح إلا بوجود بذرة الصراع المحلية : ينبغي
وجود فتنة أولا .. نائمة ثانيا .. لتوقظ ثالثا .. وفي (ثالثا) فقط ثمة حيز للتآمر
.. فنسبة المؤامرة لا تتجاوز الثلث والثلث كثير.
وصف الصراع
الأهلي بالصراع السياسي وصف خادع لأن نسبة السياسة فيه متدنية جدا .. إنه قليل من
السياسية مع كثير من المركبات أو العناصر الأخرى .. والمبدأ الذي يتحدث عن المصالح
الدائمة والعداوة أو الصداقة المرحلية لا يعمل هنا .. هنا لابد من معالجة الأسباب
برؤية مستقبلية معالجة عادلة وشفافة .. بعبارة أخرى قتل الفتنة لا (التهواي) عليها
لتخلد إلى النوم لتستيقظ ذات يوم أو ذات مصيبة وهي في كامل نشاطها.
خطورة (الحتحات)
تكرر
استخدام هذا (الحتحات علي ما فات) يقتل في الشعب روح التضامن والنخوة .. فمادام إلغاء
تضحيات الناس من أجل ما يرونه حقا وعدلا بهذه العبارة واردا وبقوة فإن الأجيال
تكتسب بمرور الزمن مزيدا من بلادة الحس ويتعزز الأخذ بالمبدأ القائل : (خطا راسي
وقص) .. وقد يترتب على ذلك تقاعس الأجيال القادمة عن الدفاع عن الوطن حتى في حالة
الغزو الخارجي.
لو
كان عمر المختار يتوقع أن يضرب بجهده وجهاده وبعشرات الآلاف الذين قضوا في العقيلة
والمقرون والبريقة عرض الحائط بهذا الحتحات الذي اتخذ بقرار من الملك إدريس الذي
لم يفقد أحدا من أسرته ولا من أقاربه في تلك الحرب ولم تطاله نارها .. بل ويصل به
الاستخفاف والسخرية من المعاناة والدماء والدموع أن يوافق (وهو قائد جيش تحرير
ليبيا من الطليان) على دستور يساوي بين أبناء الجلاد الإيطالي وأبناء الضحية
البرقاوي .. بل ويمنح الطليان أفضل الفرص الاستثمارية في العاصمة .. لو كان عمر
المختار ومن معه يتوقعون ذلك ترى هل كانوا ليستجيبوا لتحريض السنوسيين لإقحامهم في
حرب يعلم السنوسيون أنفسهم بأنها عبثية؟.
غلطة
الملك إدريس (إلا إذا كان معصوما) تتلخص كما يبدو في تعامله مع تضحيات البراوقة
إبان الغزو الإيطالي باعتبارها نتاج صراع أحمق بين قبائل محلية : المرابطين
والسعادي على الأغلب في جهة وقبيلة الطليان في جهة أخرى .. ونظر كما يبدو أيضا إلى
غراتسياني باعتباره شيخ قبيلة الطليان إحدى القبائل الشريفة المجاهدة .. وقد كانت
قراءة ساذجة وظالمة ومستهترة بالتأكيد .. وجاء الدستور (دستور الأجداد؟؟) ليؤكد
عليها .. وبذلك صار من المتوقع النظر إلى من يذكر بمعتقلات البريقة والعقيلة وجهاد
عمر المختار ورفاقه باعتباره مقلبا للدفاتر القديمة .. مثيرا للفتنة ومهددا للسلم
الاجتماعي.
السياسي
الذي لا يميز بين السياسة النقية وأكاسيدها أي (خام السياسة) يعرض رصيده الشعبي
والتاريخي للضياع .. وربما هذا ما جعل حكم الملك إدريس قصيرا .. وقد خرجت ضده
المظاهرات السلمية في برقة وسقط فيها ضحايا في شهر رمضان 1383 هـ يناير 1964 م
وتكررت في الأعوام التالية .. وما جعل شعبية القذافي كبيرة في البداية على الأقل
لأنه بدأ بمعالجة هذه الغلطة تحديدا .. ثم تدنت شعبيته بمرور الزمن فخرجت ضده
المظاهرات وفي برقة أيضا .. واختلاف حجم التظاهرات بين الواقعتين أو العهدين ربما لأنه
لم يوجد في المرة الأولى لا الفيسبوك ولا قناة الجزيرة.
تبقى كلمة وإن كانت لا تغني كثيرا .. فلعل
في تحميل الملك إدريس كامل المسئولية تقديما لثلثي الحقيقة .. فمن قراءة مصادر تلك
المرحلة يتبين أن من ضمن أسباب توجهه هذا إن الذين تسلموا مقاليد الحكم معه كانوا
من كبار التجار ذوي المصلحة في التعامل مع الأجنبي والذين لم يكتووا بنار الحرب
وويلاتها ولذلك كان التوجه للاستخفاف بتضحيات الناس وطي الصفحة على علاتها جارفا.
30/8/2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق