عودة
الملكية مبررات وهواجس
النظام الملكي وذخيرة الأساطير :
النظام الملكي أقدم محاولة لحل مشكل السلطة
ومتقدم جدا في الزمن عن نظرية العقد الاجتماعي وعن نظام تداول السلطة سلميا وظهور
الجمهوريات .. والفرق بين النظام الملكي والجمهوري ليس فرقا زمنيا فحسب (قديم
وحديث) بل هناك اختلافات أخرى على درجة كبيرة من الأهمية .. ولأن الإلمام بالنظام
الجمهوري أوسع وهو خارج موضوع هذه المقالة فسوف يتم التركيز على النظام الملكي.
لا يكتسب النظام الملكي شرعيته
من جدارته العملية بل غالبا بالخرافة والأسطورة وكان ذلك على النحو الآتي :
1 ــ اعتمد النظام الملكي على
الخرافة والأسطورة لتبرير وجوده وبقائه .. حيث كان الملوك في القدم يدعون انحدارهم
من الآلهة (القياصرة والأكاسرة والفراعنة وغيرهم) ويتولى الكهنة صناعة الأساطير
اللازمة وحبك القصة وترصيعها بكثير من الأكاذيب المقدسة.
2 ــ بمرور الزمن لم تعد أسطورة
الجينات الإلهية تحظى بالقبول .. فظهرت نظرية : الملك ظل الله في الأرض.
3 ــ وربما بمرور الزمن أيضا لم
يعد لغموض هذه النظرية القدرة على الاقناع .. فظهرت نظرية الجينات المقدسة والتي
تقول بوجود سلالات من البشر توصف في أوروبا مثلا بالنبيلة وفي بلاد الإسلام
بالشريفة .. قد ورثت البركة ورضا الله وتوفيقه .. بينما حكم الله على بقية البشر
بقلة البركة والتعاسة .. إنه تحوير للنظرية الأولى وتنويع عليها.
4 ــ إسلاميا وعربيا تجلى
التبرير في القول بوجود سلالة مقدسة تسمى بالأشراف أو آل البيت لها الحق في الحكم
وتوسعت قليلا عند بعض المنظرين القدامى لتشمل القرشيين .. حيث اشترط بعض المفكرين
الإسلاميين القدامى في الحاكم بالإضافة إلى الذكورة والبلوغ والعقل والإسلام أن
يكون قرشيا.
هذه النظرية التي طبعت أوروبا بطابعها قبل
الثورة الفرنسية أدت إلى نشوء مجتمع الاقطاع ذي الطبقات : النبلاء والفرسان ورجال
الدين والأقنان .. واضطرت للتضاؤل بعد بروز البرجوازية وانتشار الأفكار التنويرية
وتقدير قيمة العمل لا أهمية الجينات والدعوة للمساواة بين البشر ومحاربة التمييز
بينهم على أساس عرقي.
في المجتمعات الإسلامية وتحديدا العربية تأخر هذا الوعي رغم أن هذه الأفكار التنويرية التي تروجها الحضارة الغربية كان الإسلام أسبق إليها .. فالدعوة إلى عدم التمييز بين البشر على أساس عرقي من صميم الخطاب الإسلامي .. ليس هذا فحسب بل إن الإسلام قد شن حملة على النظام الملكي : {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون} ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم الملكي بالحكم العضوض .. كما أن في الكتاب والسنة دعوة ملحة إلى الشورى.
نماذج عربية حديثة
حينما تخلى معمر القذافي عن خطابه المعادي للملوك وبدأت فكرة تحوله إلى ملك تروق له وخطط للتوريث أخذ في البحث عن قصة تختلق له نسبا يمتد إلى آل البيت ليحظى بالجينات المقدسة وكان له ذلك فقد صنع له الكهنة العرب أسطورة تدعي انحداره من زين العابدين بن الحسين بن علي .. وكذلك فعل صدام حسين حينما اقتربت نهايته .. هذا الإغراء لم يستطع حتى أبو بكر البغدادي مقاومته حيث ادعى انحداره من آل البيت.
دولة الأسرة ودولة الشعب :
تهدف الأسرة المالكة منذ مؤسسها الأول غالبا إلى إقامة دولة الأسرة لا دولة الشعب .. ولكن لا تمانع في استفادة الشعب من هذه الدولة بشرط ألا يكون ذلك على حساب دولة الأسرة ويكون بالتفضل والمن والأذى .. الدولة الأموية .. العباسية .. الفاطمية .. السعودية .. العلوية بالمغرب .. الأردنية .. العثمانية .. السنوسية .. دولة الأدارسة ... الخ كلها دول أسر أسست لتتوارث الشعوب التي تحكمها .. هذا هدفها الأساسي .. وكمثال على ذلك المملكة السنوسية .. فقد حصر إدريس وراثة العرش في الفرع المهدوي بمراسيم ملكية بعد تنصيبه وحرم الفرع الشريفي بسبب حساسيات قديمة متصاعدة بين الفرعين توجت بقتل صفي الملك أي إبراهيم الشلحي عام 1954 وبعدما توفي اخوه الرضا السنوسي عام 1955 واكتشافه أن ابن أخيه أي الحسن الرضا لا يمكن الاعتماد عليه لكي يحافظ على وراثة العرش زهد في الحكم وقدم استقالته عدة مرات وقد تأكد ألا وريث له وخطط لانقلاب عبد العزيز الشلحي البربري ووافقه ولي العهد الحسن الرضا في ذلك .. وحتى بعد مجيء القذافي لم يفكر في استرجاع الملك وكان بإمكانه ذلك .. كل هذا ليس زهدا في السلطة بل لأن الملك كان يحلم بإقامة دولة الأسرة فلما أكتشف ألا أسرة لديه تنازل عن البيعة ولم يهتم بمصير الشعب.
خدعة الملكية الدستورية
هناك عدة اعتراضات على الملكية
الدستورية
أولا : لا ضمانة تؤكد التزام
الملوك الذي يتعاقبون على العرش بما جاء في الدستور .. وفي المملكة السنوسية وقعت
عدة حالات لم يلتزم فيها الملك بما يقوله الدستور (ينظر كتاب مصطفى بن حليم).
ثانيا : ما دخل التوارث المبني
على الجينات للملكية الدستورية .. الفكرة غير مستساغة ولا مقنعة إطلاقا.
ثالثا : الفكرالسياسي تجاوز على مستوى التنظير والتطبيق فكرة الملكية الدستورية وذلك بالنظام الذي تعطى فيه الرئيس صلاحيات محددة تشبه صلاحيات الملك الدستوري .. وهناك عدة دول تطبق ذلك .. بهذه الفكرة نتجنب مأزق وجود فئة من الشعب لها امتيازات خاصة وهي الأسرة المالكة والتي لا تخلو من صراعات داخلية تؤثر أحيانا على استقرار البلاد كما تؤثر على سير العملية الديمقراطية وقد تنغمس في الفساد (فيما يخص المملكة السنوسية ينظر كتاب مصطفى بن حليم) .. وتثقل الدساتير بمواد تختص ببيان امتيازاتها وأدوار أفرادها وصلاحياتهم وموضوع مجلس الوصاية والوصي والمخصصات المالية .. كل هذه التفاصيل المعقدة يخلو منها الدستور الجمهوري.
محليا لماذا الملكية؟
مؤيدو العودة إلى النظام الملكي السنوسي في
برقة فئات :
1 ــ فئة تؤيد العودة تأثرا
بأسطورة الجينات المقدسة التي يحاربها الإسلام بكل قوة.
2 ــ فئة تؤيد العودة بحجة أن
البيعة للسنوسية لم تسقط وهذا المدعو محمد الحسن الرضا من حقه استعادة ملك أجداده
.. والبيعة للسنوسية ثبت سقوطها وذلك باستقالة الملك قبل مجيء القذافي بشهر
وباتفاقه مع ولي العهد للتخطيط لانقلاب يقوده عبد العزيز الشلحي البربري وتسليم
البلاد له وتأكدت بعد ذلك بتوقيع الحسن على استقالته بعد الانقلاب.
3 ــ فئة تؤيد العودة لأن
الملكية السنوسية الأقدر على إرساء الاستقرار كما يروجون .. ولكن أي استقرار؟ وعلى
أي صورة؟ .. السيارة التي
اختل توازنها على الكرنيش استقرت أخيرا ولله الحمد ولكن في قاع البحر.
لسان حال هذه الفئة يقول : ما نجح سابقا
سينجح لاحقا (هل نجح النظام الملكي حقا؟ لو نحج لما استقبل القذافي الشاب النكرة
بكل ذلك التأييد الشعبي في البداية) .. أنهم يضربون بعرض الحائط التغيرات الدرامية
التي عصفت بالعالم وبالبلاد على مدى ال 53 سنة الأخيرة .. إذا أخذنا بما يقوله
لسان حال هؤلاء فعلينا تأييد داعش والقاعدة وحزب التحرير الذين يدعون وفق القاعدة
: (ما نجح مرة سينجح دائما .. ما نجح سابقا سينجح لاحقا هذا إذا سلمنا بنجاحه أصلا)
.. يدعون لإحياء الخلافة لاستعادة كرامة المسلمين وإنشاء امبراطورية يقول قائدها :
من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم .....
4 ــ فئة تويد العودة من باب
الوفاء .. لسان حال هذه الفئة يقول : بما أن السنوسية قد أنشأوا دولة برقة وحرروها
ثم دولة ليبيا فمن باب الوفاء تكريمهم بأن يرثونا جيلا بعد جيل .. وهنا تتجلى السذاجة
التي لا تقيم لمصلحة البلاد وزنا (ليبيا لأنهم من الفيدراليين غالبا) .. إن التمسك
بقيمة الوفاء هنا لا يضمن مستقبلا أفضل بالضرورة .. ثم هل فعل إدريس ذلك حبا في
برقة وشعبها ثم حبا في ليبيا وشعبها أم من أجل إقامة دولة الأسرة؟
5 ــ فئة تؤيد العودة كرها في
السلفية وإنحيازا إلى الصوفية خصمها اللدود والذي تنتمي إليه الحركة السنوسية.
6 ــ فئة تؤيد العودة كرها في
حفتر وخوفا من سيطرته هو وأبنائه.
أما في غرب ليبيا فإن فئات المؤيدين لا تتعدد
كثيرا .. بالنسبة للمصاريت يرون في عودة السنوسية وسيلة لتعزيز هيمنتهم على برقة
باستغلال جمهور المغرر بهم في برقة بفعل حملة التلميع للسنوسية والعهد الملكي التي
ازدادت شراسة في العقد الأخير .. ومصالح مصراتة تلتقي بمصالح الفئة رقم 6 كما
يمكنها استغلال جمهور الفئات الأخرى .. وإذا عادت الملكية فسوف تهيمن مصراتة على
برقة وفزان بعدما هيمنت تماما على إقليم طرابلس.
المناطق الأخرى بإقليم طرابلس ربما تلتقي في تأييدها لعودة السنوسية مع الفئة رقم 5 لانتشار الحركات الصوفية على نطاق واسع في هذا الإقليم.
ثمة نقطتان من الواجب الإشارة إليهما :
أولا : موقف السنوسية الغامض من
برقة .. فبينما احتضنت برقة هذه الحركة وقدم شعبها التضحيات الجسام من أجلها .. إذ
لولا برقة لما كانت السنوسية شيئا مذكوورا فإن الرائج في أدبيات السنوسية أن
السنوسية صاحبة الفضل على برقة لا العكس .. وبالتوقف أمام بعض التفاصيل مثل
المصاهرة نجد أن كل أمهات السنوسية اللواتي من خارجها كن من غرب ليبيا .. إنه غموض
الانتماء .. ظل شعب برقة في نظر السنوسية وقودا لطموحاتها وسعيها إلى السلطة وإما
التقدير والاحترام فكان لغرب ليبيا.
ثانيا : حتى لو افترضنا أن المملكة
السنوسية جعلت من ليبيا جنة الله على الأرض كما يقول الملمعون على عكس ما يقوله
كثير من المعايشين الصادقين وعكس ما يوحي به التأييد الشعبي الذي حظي به معمر وهو
الشاب النكرة في بداية عهده .. حتى إذا سلمنا بذلك فإن أثر الزمن لا يمكن تجاهله
ولذلك فإن عودة الملكية السنوسية سوف تكون وبالا عليها وعلينا .. وفي هذه الحالة
ليس أمام البراوقة سوى العمل لإقامة جمهورية برقة العربية.
20/8/2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق