الاثنين، 18 أبريل 2022

فهم الحرب الأهلية (3) ومضات في السياق

 

فهم الحرب الأهلية

(3)

ومضات في السياق

المصطلحات الأربعة

     كل صراع بين الجماعات يحركه الشعار وترعاه الهوية .. بالنسبة لدور الشعار في الحروب الأهلية فقد تم تناوله وإن على عجل في المقال الأول من هذه السلسلة(1) .. أما الحديث عن الهوية فعلى قدر كبير من الضخامة والتشعب .. ولكن لتناوله بما يسمح به المقام الضيق سوف نحصر الحديث في جزء واحد كمثال يمكن أن يقاس عليه .. لنتناول الآثار المادية التي ترى منتشرة في بلاد ما وكيف ينظر إليها من حيث المصطلحات الأربعة وهي : التراث الإنساني والسياحة والهوية والعراقة.

   كل أثر قديم بصرف النظر عما يمثله هو حتما جزء من التراث الإنساني وبناء عليه فهو جدير بأن يشمل بحماية اليونسكو .. ويمكن استغلاله سياحيا .. لكن أن يمثل هوية لجيل من البشر في حقبة محددة فهذا أمر فيه توقف .. فإذا مثل هوية أمكن إضافة عمره لعمر تلك الجماعة وشكل رصيدا في عراقتها وإلا تعذر ضم الحقب لأن العراقة لا يصح فيها ما يصح في قوانين العمل من أحقية ضم الخدمة .. العراقة خبرة والخبرة لا تضم كما لا يجوز مثلا لمن عمل بقطاع معين  خمس سنوات ثم انتقل إلى  قطاع ثان أن يقول بعد سنتين من انتقاله بأن خبرته في القطاع الثاني سبع سنوات ولكن يجوز له ضم الخدمة.

   والعراقة بما أنها خبرة فهي تشترط التواصل ومن ثم التراكم ويشترط في الهوية التواصل أولا .. فلكي يمثل هذا الأثر هوية ومن ثم يمكن ضم عمره كرصيد في العراقة يشترط عدم وجود قطيعة معرفية أو قطيعة أيديولوجية أو قطيعة وجدانية معه.

   فلو أن هبل والعزى واللات نجت من التحطيم في فتح مكة وقاومته حتى وصلت إلينا فكيف يكون التعامل معها؟ .. سوف تعامل كجزء من التراث الإنساني وسوف  تحمى من اليونسكو ويمكن استغلالها سياحيا .. ومن المتوقع أن يقود الفضول حتى المسلمين لمعاينتها لأنها مذكورة في النص الإسلامي المقدس وفي السيرة ..ولكن أن يخرج أحد أفراد الجيل الحالي من البشر المقيمين بالسعودية قائلا بأن هبل جزء من هويتي فهذا ما لا يمكن تصوره وكذلك جعل هبل رمزا للعراقة .. لماذا؟ لأن ثمة قطيعة أيديولوجية (عقدية) مع الأثر. 

   ومن مظاهر القطيعة المعرفية وقوفك أمام الأثر لا تدري ما الغرض منه وماذا يقول واضطرارك للسفر إلى أحفاد من بنوه لتسألهم .. وعادة تترافق القطيعة المعرفية مع القطيعة الأيديولوجية .. فآثار شحات مثلا لم نفهمها إلا بالسفر إلى روما وأثينا وحينما عرفنا الغرض اكتشفنا أنها أيديولوجيا لا تمثلنا .. لكن هي جزء من التراث الإنساني وتستغل سياحيا .. في المقابل الآثار الإسلامية في الأندلس جزء من هويتنا كمسلمين وعرب مثلما آثار شحات ولبدة جزء من هوية الإيطالي واليوناني مع مراعاة عقيدته المسيحية.

    والقطيعة الوجدانية تنشأ حينما يذكرك الأثر بالتعاسة والأيام السود وتترافق هذه الذكريات مع القطيعة الأيديولوجية عادة إذ أن الأثر في هذه الحالة يرتبط بجيل (استعماري) نكل بأسلافك وجاء بعقيدة أحيانا تخالف عقيدتك .. بماذا تذكرنا السرايا الحمراء؟ ومنارة اخريبيش؟ وما مبرر هستريا أو لوثة مرقص الإنجيلي عند البعض؟ وما علاقته بهويتنا؟

الحقب المنفصلة

    على صلة بما سبق وعلى علاقة بالهوية والقطيعة بأنواعها الثلاثة من المفيد في الفهم الالتفات إلى مفهوم الحقب التاريخية المنفصلة وللتوضيح ثمة أسئلة :

    هل تاريخ الهنود الحمر امتداد طبيعي في الماضي لتاريخ الولايات المتحدة الحالي؟ قبل 1453 ماذا كان المكان المعروف الآن بتركيا؟ هل تاريخ اليونان امتداد طبيعي في الماضي لتاريخ العثمانيين؟ والمصريون اليوم هل هم امتداد لبناة الأهرام وقد عانوا قطيعة معرفية مع الكتابة الهيروغليفية لم تحل إلا أخيرا باكتشاف حجر رشيد وبالصدفة؟ مع أخذ القطيعة الأيديولوجية في الاعتبار .. القرآن الكريم حل هذا الإشكال الخاص بالحقب التاريخية المنفصلة أو شبه المنفصلة بالآية : {تلك أمة قد خلت} والمؤرخون العرب القدامى استخدموا المصطلح : العرب البائدة .. ومن الآية والمؤرخين نلاحظ اعترافا ضمنيا بوجود حقب زمنية منفصلة حتى على مستوى ما يمكن تسميته بالأمة الواحدة : العرب عربان : عرب بائدة وعكسها.

رد الصراع إلى أصله

    تتخذ الصراعات أحيانا أقنعة للتمويه ولذلك فمن الحكمة إزالة القناع ورد الصراع إلى أصله .. كمثال على الصراعات المموهة ثنائية البدوي والحضري في برقة التي تجد لها صدى في غرب ليبيا .. ومن المفارقات الجديرة بالتوقف خروج هذين المصطلحين : (البدوي والحضري) عندنا عن دلالتهما في علم الاجتماع على مستوى العالم في عملية تمويه للصراع الجهوي في أحد تجلياته .. وما كان لهذا التمويه أن يحدث وينطلي على الكثيرين إلا بسبب حدة الصراع الجهوي .. فالمصطلحان معروفان بعلم الاجتماع ويطلقان حسب نمط الحياة ونوع النشاط الذي يمارسه المرء .. فمن يعيش في المدينة له نمط حياة ونشاط مختلفان عمن يعيش خارجها .. ولذلك قد تجد أخوين شقيقين أحدهما بدوي والآخر حضري وقد يوصف المرء بالبدوي في مرحلة من عمره ثم يوصف بالحضري في مرحلة أخرى أو العكس .. هذا في كل العالم عدا برقة .. في برقة للمصطلح دلالة وراثية .. فالحضري حضري هو وسلالته إلى يوم القيامة مهما كان نمط حياته ونشاطه .. والبدوي بدوي هو وسلالته إلى يوم القيامة .. فالحضري في برقة هو من جاء من غرب ليبيا أو من الغرب عموما في القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة .. والبدوي هو من كان قبله (المرابطون والسعادي) .. وهكذا اتخذ مصطلح الحضري بعدا عنصريا.

     وفي رأيي المتواضع إن التصدي لهذه المهاترات من قبل من يدعون التحضر لا يكون ببيان خصال البدو الحميدة بل بكشف حقيقة الصراع .. حيث أن حقيقة الصراع جهوية وليست بين أناس يعيشون نمطين مختلفين من الحياة .. وفي كلام المدعوين نعمان ودوغة حين ذهاب الجيش إلى طرابلس ما يؤكد هذه الحقيقة.

    وجاءت الطامة الأخرى ما يسمى بقبائل الأشراف في مقابل قبائل (الأنذال) .. والأولى جاءت من غرب ليبيا أو من الغرب عموما والثانية موجودة بشرقها فهي أيضا نغمة جهوية عنصرية مقيتة.

     الخلاصة من الأفضل أن نرد الصراع إلى أصله ولا ننجر لما يوحي به ظاهر الصراع .. وإن نميز بين ما هو سياسي بحت وما هو ضمن أكاسيد السياسة(2).

الذاكرة وتراكم الخبرات

    من أهم الأسباب التي تؤدي إلى تكرر اشتعال الحروب الأهلية التكتم .. وعلى العكس من ذلك فمن أهم الوسائل الوقائية والتي هي بمثابة التلقيح المضاد للحروب الأهلية الشفافية والتدوين وإحياء الذاكرة .. مجتمعنا الليبي كامتداد للمجتمع العربي والإسلامي يأخذ بالكتمان تحت ذريعة تحاشي إيقاظ الفتنة .. والصحيح أن أفضل وسيلة لقتل الفتنة وليس تركها نائمة هو فضحها وذلك باعتماد التدوين وإحياء الذاكرة وهذا ما يتسق مع قوانين العدالة الانتقالية .. خذ مثلا الحرب الأهلية في أمريكا فقد دونت من عدة زوايا نظر وحولت إلى أفلام وإلى قصص كرتونية تقدم إلى الأطفال .. والأمر نفسه حدث مع الحرب العالمية الثانية وخاصة الحرب بين اليابان والصين وغير ذلك من الأمثلة. 

    حينما حل ما يعرف بالربيع العربي أراد الليبيون تقليد مصر وتونس ولكن أخفقوا في ذلك ولعل السبب الأهم وراء إخفاقهم ذو علاقة بالكتمان المشار إليه سابقا .. والكتمان المقصود هنا نوعان : كتمان المؤرخ الذي مر على الحقب والأحداث ولم يسجل منها إلا النزر اليسير وكتمان القارئ الذي مر على هذا النزر ولم يقرأ منه شيئا .. ففي إخفاق الليبيين تجلى الجهل بالتاريخ : تاريخ الجهات والقبائل والمدن .. فثمة جماعات داخل ليبيا نستطيع حتى بقراءة القليل الذي كتب حولها أن نحذر منها مهما كان موقفها في البداية من الصراع لأنها معروفة بشذوذها ونشازها عن إجماع ليبيا أو إجماع الجهة الغربية أو الجهة الشرقية .. ولجهلنا بالتاريخ خدعنا فيها وكان ما كان.

    المعرفة تعتمد على التراكم وهذا بدوره يعتمد على التدوين ولولا التدوين لكانت الإنسانية تراوح مكانها وفي كل مرة تعود إلى الصفر.

    بتدوين الحروب الأهلية تتحقق أمور ثلاثة على الأقل : أخذ العبرة .. ومعرفة سلوك الجماعات والحذر من كل ما تواتر عنه الشذوذ وحب الهيمنة منها .. وتحول التراجيديا إلى كوميديا وإن كانت هذه الأخيرة مؤسفة لكنها تخفف من الاحتقان.

...................................................................................................................

(1) المقال : المتأين

http://abdullahharunabdullah.blogspot.com/2021/12/1_31.html

(2) المقال : أكاسيد السياسة

http://abdullahharunabdullah.blogspot.com/2022/04/2.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محتويات المدونة (الفهرس)

 بدون ترقيم ولكن ترتيبه في النشر يأتي بعد المقال رقم 42 محتويات المدونة (الفهرس)      ملاحظة : تاريخيا من الأقدم إلى الأحدث أنشأت ثلاث م...