الخميس، 10 سبتمبر 2015

سيناريو الحاجة بلادي

سيناريو الحاجة بلادي

مشهد 1 : خارجي ليلي
لقطة قريبة :
الكادر مظلم .. بقعة ضوء من
مصباح محمول تسقط على جدار
.. على عبارة : "منزل الحاجة بلادي" ..
وثمة خربشات طفولية
مشهد 2 : منزل .. غرفة نوم
لقطة متوسطة :
ثمة شمعة تنير المكان .. ثمة
ساعة معلقة على الجدار
.. الحاجة بلادي تتهيأ للنوم
لقطة قريبة :
تسحب الحاجة بلادي الغطاء                    صوت في الخارج ينشد : يا بلادي ..
                                                      يا بلادي .. يا بلادي
لقطة متوسطة :
الحاجة بلادي تستوي جالسة                     صوت الحاجة بلادي : أيوا يا بوي ..
في سريرها مغالبة النعاس                         من اللي يعيط؟ عليك بخت
وعلى محياها علامات التذمر
لقطة متوسطة :
الكاميرا تتابع الحاجة بلادي ناهضة              الحاجة بلادي : خير إن شا الله
من سريرها .. حاملة الشمعة ..
متجهة بتثاقل لفتح الباب
لقطة متوسطة :
تفتح الحاجة بلادي الباب .. تحدق في           الحاجة بلادي : من اللي يبيني؟
الظلام .. تحدق معها الكاميرا ..
لا شيء سوى الظلام
لقطة متوسطة :
تقفل الباب ..تعود الحاجة                 
بلادي أدراجها .. تتهيأ للنوم             صوت في الخارج : يا بلادي ..يا بلادي ..
                                               يا بلادي ..
                                               صوت الحاجة بلادي : يانا علي ..
                                              عليك قل راحة .. يا طياح سعد
                                               بلادي
لقطة متوسطة :
الحاجة بلادي تستوي جالسة              الحاجة بلادي تتمتم تعبيرا عن التذمر
في سريرها مغالبة النعاس
وعلى محياها علامات التذمر              صوت في الخارج : يا بلادي .. يا بلادي ..
لقطة متوسطة :
تنهض ..تتابع الكاميرا الحاجة
بلادي في مسارها المعتاد بحركاتها
المتثاقلة المعتادة لفتح الباب
لقطة متوسطة :
تفتح الباب على الظلام ..                    الحاجة بلادي : من اللي يعيط؟
ثمة بقعة ضوء ضئيلة بعيدة                 صوت ينشد من جهة بقعة الضوء
تتحرك يمنة ويسرة                          المتحركة : يا بلادي .. يا بلادي .. 
                                               الحاجة بلادي : إنعم يا بوي .. كنك
                                               .. كنك؟
                                               صوت ينشد من جهة بقعة الضوء
                                              المتحركة : ادفعي كيد الأعادي
                                             والعوادي واسلمي ..
                                             الحاجة بلادي : باهي .. باهي ..
                                             سودت ليلتي .. نا ماني في كيد الأعاديش ..
                                              نا فيك أنت هو من هو؟
تنهال رخة من الحجارة عليها من        
جهة بقعة الضوء المتحركة ..           صوت اصطدام الحجارة بالباب والنوافذ
تسرع الحاجة بلادي بقفل الباب
لقطة متوسطة :
الحاجة بلادي جالسة بفراشها ..        يسمع بين الحين والآخر صوت طرق
تحدق في الساعة .. تراوح ببصرها      الحجارة على الباب والنوافذ
بين الساعة والشمعة   
عقارب الساعة مفك يدور يمينا يمارس الغلق والشمعة تنزف.    

9/8/2015


الاثنين، 7 سبتمبر 2015

جدل العكاز والشمسية

جدل العكاز والشمسية
محاولة لفهم الذات

مهداة إلى ابن الخال : أبو بكر بو عجيلة الحاسي

          كثيرا ما أسمع البعض ينتقد القذافي في أنه لم ينجح في جعل ليبيا مثل الإمارات العربية مثلاً .. وأحياناً تتقلص المقارنة من مقارنة الكل بالكل إلى مقارنة الجزء بالجزء .. أي لماذا لم تكن بعض مدن ليبيا في مستوى دبي؟ .. وتجلى هذا التحسر في قصائد وأبيات شعرية .. فعندما تولى امبارك عتيق أمانة اللجنة الشعبية لشعبية القبة (توفّي خلال توليه هذا المنصب عام 1999 م) وقام ببعض الخطوات المتعلقة بمظهر مدينة القبة .. تردد على ألسنة الناس البيت :
    احسبت القبة كدبي *** بدور الضي *** وتكنيسة لوساخ اشوي؟!
         وفي أواخر عام 2014 نسمع الشاعر حسن علي بو الدردية من قصيدة بيتاها الأول والثاني :
شهادة حق يلقاها الحي        ***   نهار الموت في حبل الوريد
                    لا لزلام يعنوني بشي          ***     ولا الثوار داروا ما اريد
يقول :
كنت نقول نقبوا كدبي        ***      للصومال جنحنا أكيد!!!
       وفي هذه المقارنة وهذا التحسر ثمة ما يقال.
انتبه للفروض الخادعة
        أول ما يمكن ملاحظته أن في المقارنة بين ليبيا والإمارات طعماً أو فرضا خادعا .. ففرضية أن الإمارات دولة قدوة محل شك .. على المستوى الاقتصادي الذي هو محور المقارنة أصلاً يوجد تفاوت كبير جداً بين الإمارات فشتان بين دبي وبين الإمارات الأخرى .. وعلى مستوى هذا المحور أيضاً وفي دبي ثمة تقدم اقتصادي ذو طابع رأسمالي بما في الرأسمالية من مساوئ يعتمد في معظمه على الأجانب بما في ذلك من مخاطر مستقبلية .. وثمة تغريب للمكان عن المواطن بالمعنيين اللذين توحي بهما كلمة تغريب : من الغرب كمصطلح جغرافي ذي بعد حضاري ومن الغربة بدلالاتها المعروفة .. بحيث لو طبق هذا النموذج على أي مدينة ليبية لوجدنا المواطن يرفضه أو يتذمر منه ولو بعد حين .. فليس بالدولار وحده يحيا الإنسان.
      بالإضافة إلى ضرورة الانتباه إلى مدى صحة الفرضية : بأن الإمارات دولة قدوة .. ينبغي الانتباه على الجانب الآخر إلى مدى صحة الفرضية : بأن نظام القذافي لم يحقق لليبيين شيئا .. علينا مناقشة هذه المقولة نقاشا موضوعيا منصفا فقد تكون من الفروض الزائفة أيضا.
الشيخ زايد في ليبيا
       للشعب الليبي بالإضافة إلى الفروق الجغرافية وتلك المتعلقة بحجم السكان وتنوعهم فيما يخص المقارنة موضوع البحث ثمة خواص أخرى تتعلق بالشخصية الليبية بحيث لا نبالغ إذا قلنا لو أن الشيخ زايد نفسه تولى السلطة في ليبيا لما استطاع أن ينجز شيئاً أكثر مما تم إنجازه.
       ولماذا نلجأ إلى التخيل؟ .. لقد تولى السلطة في ليبيا رجل من نفس المدرسة التي ينتمي إليها الشيخ زايد إنه الملك إدريس .. فالاثنان يتبعان سياسة تجنب الصدام : ففي الوقت الذي نرى فيه الشيخ زايد يقبل على مضض باحتلال إيران لجزء من أرضه نرى الملك إدريس يقبل في سابقة عربية بعد الاستقلال بوجود قواعد أجنبية على أرضه .. وكلاهما كالبندول الحائر بين الموروث الديني وأدبيات حقوق الإنسان المعاصرة .. فقد أبيح في عهد الملك افتتاح دور الدعارة وبيع الخمور.. ولكن رغم تلك الهيدقة الدينية ماذا كان مدى قبول الشعب الليبي لذاك في حينه؟ .. وربما تكون الخمور مباحة أو يغض عنها الطرف الآن في الإمارات العربية المتحدة (ربما في دبي تحديداً) ..  بالإضافة إلى أنهما يميلان لمسايرة الغرب عموماً.
        لعل من اللافت أن الملك إدريس بات يلقب الآن بالملك الصالح بينما من الأفضل تلقيبه بالملك الزاهد (أي الزاهد في السلطة) إذا كانت ثمة ضرورة للقب إذ أن الصلاح بصفة عامة من المفاهيم الخلافية .. يبدو ذلك من هذا التناقض (بمنظور المجتمع الليبي المسلم) الذي صار واضحا الآن ويتجلى على سبيل المثال لا الحصر في وصف من أباح افتتاح دور الدعارة بالصلاح وتكفير من قام بإغلاقها (أي القذافي).
القذافي مركّب ومرحلة
        أما وإن المقارنة مؤسسة على الأشخاص بالإضافة إلى الشعوب .. والحديث فيها يدور حول الشعب الليبي والشعب الإماراتي وأيضا حول الشيخ زايد والملك إدريس ومعمر القذافي وبما أننا قد تطرقنا بشيء من الإيجاز للتعريف بالشيخ زايد والملك إدريس فقد صار من حق القذافي أن نعرف به أيضا.
         حينما جاء القذافي إلى السلطة في 1969 كان كائنا سداسي التركيب : شاب + عسكري + بدوي + فقير + خلفية دينية + توجهات ناصرية .. وليست هذه العناصر الستة كلها سيئة في ذاتها ولكن حينما توضع في إناء المرحلة يختلف التقييم .. كونه شابا يعني قلة الخبرة وانعدام الحنكة ولكن من المفترض اكتسابها بالتقدم في العمر والممارسة .. ولم تكن العسكرية عيبا في الحاكم في المرحلة التي سبقت مجيئه ولكن حينما أطل كان المزاج العام في المنطقة قد تحول للنفور من الحاكم العسكري وكان المزاج العام قد بدأ في النفور أيضا من البداوة وقد ساعدت الطفرة النفطية وعوامل أخرى في نشوء المدن وتجلت في السينما والمسرح السخرية من البدوي القادم إلى المدينة .. وحينما يصل الفقير إلى السلطة فثمة احتمالان : إما أن يضيق على الأغنياء بغطاء اشتراكي موجه وإما أن يسلك سلوكهم ويشرع في سد جوعه المزمن للملذات  والثروة .. وقد اختار القذافي الاحتمال الأول .. يحضر في هذا ذلك الهتاف الذي كان يتردد في بداية عهده :
يا وكال دجاج محمّر   ما تحساب وراك معمر.
       وأما فيما يتعلق بخلفيته الدينية فقد جاء القذافي في لحظة الطلاق العلني بين الإسلام والعروبة فتمزق بينهما .. وهنا لابد أن نتذكر قصيدة شعبان اكبيرة (كفرت بيعرب)  نزارية الطراز التي حوت مصطلحات إسلامية : (كفر .. ثواب .. القدس .. الخليفة) وقد قدمت في ساق عروبي وكان هذا في لحظة الافتراق بين العروبي والإسلامي.
      وكان المزاج العام قد أخذ في الابتعاد عن الناصرية بفعل هذا الافتراق بين العروبي الإسلامي أو ربما كان هذا الافتراق نتيجة لهزيمة 1967 وتعثر مشروع تحرير الأراضي المحتلة وكانت إرهاصات ما عرف فيما بعد بالصحوة الإسلامية وحملة تشويه عبد الناصر والقوميين التي صاحبتها (حملة الشيخ عبد الحميد كشك مثال على ذلك).
       وكان العنصر المؤهل لأن يستفيد القذافي منه هو العنصر الخامس : (الخلفية الدينية) .. فالرجل كان حافظا للقرآن وبعدة قراءات وكان كما يبدو جيد الإطلاع على السنة والفرق والمذاهب .. وما قام به من غلق دور الدعارة ومنع تصنيع الخمور وبيعها وطرد الأجنبي المستعمر من ليبيا وغير ذلك من الخطوات ربما ما جعل الشيخ كشك الإخواني الحاقد على الجميع يقول عن القذافي :
قد عمّر الإسلام معمر.
       لكن ما لبث أن غير رأيه وشمله بحملته المتجنية التي كانت تمهيدا لأن يطرح الأخوان أنفسهم كبديل وحيد لكل الأنظمة القائمة بعد نجاح الحملة.
          وربما ساهم القذافي في ألا يستفيد من هذا العنصر .. فربما جاهر بعدائه للإخوان أو للتيار الإسلامي لقلة حنكته و لغلبة الارتجال عليه .. فكثيرا ما ورط القذافي لسانه أكثر مما ورطه فعله .. خذ مثلا آراءه في القرآن والسنة التي لم يكن لها من ضرورة والتي التقطها خصومه من آل سعود وغيرهم فسلطوا عليه علماءهم فكفروه بسببها وألبوا عليه العوام .. وخلطه بين الجد والهزل مثال ذلك طرحه لإعادة إحياء الدولة الفاطمية .. هذا الطرح لا يمكن حمله محمل الجد ولكن قد يستغله خصومه للسخرية منه أو اتهامه بالرجعية أو بالتطرف أو حتى بالتشيع .. وخذ مثلا آخر : قولته في الخطاب المشهور (زنقة زنقة) :
معي الملايين وموش م الداخل.
       التي التقطها السباطشة الليبيون والسباطشة الأجانب ليسوقوها كاعتراف صريح بوجود مرتزقة أثبت فيما بعد عدم وجودهم.
        أما على مستوى الفعل فلم يكن سيئا بالمطلق .. فله ما له وعليه ما عليه ويمكن تقييم عهده تقييما مرحليا وفي هذا ثمة مراحل أربع على وجه التبسيط : من 1969 إلى 1976 ومن 1976 إلى 1988 أصبح الصبح ومن 1988 إلى 2003 تاريخ سقوط صدام حسين ومن 2003 إلى 2011 .. وأغلب الأمثلة والذكريات السيئة التي يسوقها خصومه لتشويه عهده عبر وسائل الإعلام قبل وبعد اغتياله ملتقطة من المرحلة الثانية الممتدة من 1976 إلى 1988 وهي المرحلة التي سماها القذافي نفسه بمرحلة العنف الثوري.
       وبينما كانت المرحلة الأولى هي مرحلة القذافي البطل الوطني الذي أجلى القواعد الأجنبية وبقايا المحتلين الطليان وأمم شركات النفط فقد كانت المرحلة الأخيرة مرحلة تسوية الملفات العالقة وتصفية مخلفات مرحلة الثانية أي مرحلة العنف الثوري .. ويمكن تسميتها مرحلة السل (بفتح السين المشددة) والتي أشارت إليها الأغنية التي مطلعها :
سليتا وسلم إيدك    سلة شعر من عجينة.
     وهو مطلع يفضل بعض الملاعين قراءته قراءة جنسية ويتساءلون من ثم عن ماهية المسلول.
هل المقارنة عادلة؟
          لتكون المقارنة عادلة ينبغي أن نضع طرفيها في نفس الظروف تقريباً .. وهكذا نلاحظ أنه ليس من العدل المقارنة بين شعب وقبيلة .. أو إذا أردنا التخفيف بين دولة الكوكتيل من القبائل والأعراق والدولة القبيلة على غرار الدولة المدينة التي شاعت قديما في بلاد الإغريق .. هذا على المستوى الديموغرافي .. أما على المستوى الجغرافي فليس من العدل أيضاً المقارنة بين ليبيا كقارة والإمارات كبلد مساحته ربما تعادل مساحة أصغر بلدية في ليبيا.
         وعلى مستوى التاريخ فثمة فروق جوهرية ..  ففي حقبة الاستعمار الحديث كان يطلق على هذه الإمارات السبع اسم دول الساحل المتهادن Trucial States  .. في الوقت الذي شرد فيه الليبيون الأتراك في أواخر حكمهم لليبيا وشردوا بعضهم بعضا في الحروب الأهلية والصراعات القبلية ثم خاضوا صراعا مريرا مع إيطاليا .. وفي عهد الشيخ زايد لم نسمع بإماراتي في مناطق الصراع والحروب الأهلية في العالم بينما تهافت الليبيون عليها بقوة.
        ومن بين الملامح المميزة للشعبين أيضا نجد مثلا أن الشعب الليبي الذي خرج محطما .. شعباً من ذوي العاهات بعد أن طحنته حربان عالميتان وحرب إيطاليا وبفقر مدقع وبنسبة أمية مفجعة .. نجده يدخل أول انتخابات بأحزاب عديدة بعضها ذات مرجعيات خارجية أو تمويل خارجي .. ما دعا الملك إدريس وهو المعروف بهدوئه وصبره أن يوقف عمل الأحزاب حتى نهاية عهده.
        يضاف إلى ذلك هذا التعطش للأفكار الوافدة فعلى سبيل المثال لم يمض على ولادة حزب التحرير الطامح لإعادة دولة الخلافة السنوات الست أو السبع حتى وجدنا له في مطلع ستينيات القرن الماضي أعضاء في ليبيا .. يقابل هذا التعطش للوافد والمستورد زهد وعزوف عما هو ذاتي أو محلي .. تجلى هذا النزوع للتحزب والتشرذم أيضا بعد اغتيال معمر القذافي والذي حارب الأحزاب والحزبية بشراسة.. فما كاد يدفن إن دفن حتى أطلت علينا قائمة مرعبة من الأحزاب الوليدة  .. وكما رفضت الأحزاب من السلطة في عهد المملكة وعهد الجماهيرية رفضت من قبل الرأي العام بعد الانتخابات البرلمانية الأولى عام 2012م .. بينما في المقابل لكل هذا لم نسمع عن إماراتي واحد وحيد في عهد الشيخ زايد حوكم بتهمة محاولة تشكيل حزب؟
          لنأخذ قبيلة ليبية متميزة قليلة التفرع جيدة التجانس مثل قبيلة الحاسة .. ولنفترض أن هذه القبيلة أعلنت عن قيام دولتها الفيدرالية في أرضها التي تقيم بها .. وسمتها الإمارات الحاسية المتحدة (هذا مع افتراض وجود ثروة طبيعية ضخمة) .. وتولى قيادة كل إمارة من إماراتها الثلاث شخص منها ووضعوا على رأس الدولة واحدا من أعيان القبيلة ووجهائها .. هذه الدولة المتخيلة هي التي تصح المقارنة بينها وبين الإمارات العربية المتحدة.
        في المقابل قد تصح المقارنة على مستوى الإنجاز بين ليبيا في عهد القذافي و الجزائر في عهد حزب التحرير .. فالبلدان متقاربان من حيث الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ والثروة ووقوعهما في إقليم واحد ومن حيث طبيعة الشعب وهواجس النظامين السياسية.
      ربما استشف البعض من هذا أنني أريد القول بأن الدول الصغيرة جغرافيا وديموغرافيا لديها فرصة أفضل للتطور الاقتصادي على الأقل .. وربما استنتج هذا البعض أنني من مؤيدين نموذج الدولة القبيلة وربما قاد هذا الاستنتاج لاتهامي بأنني من دعاة التقسيم.  
       هنا ينبغي توجيه التفكير والقراءة .. إذ ينبغي الانتباه إلى أنه ليس المهم تجنب التقسيم بل المهم ألا تتحول الوطنية إلى وطنية قسرية وذلك بأن تبنى الأوطان على التراضي فإذا تعذر ذلك فلا جدوى من تبادل الاتهامات والبحث في النوايا .. ثم أن حدود الدول ليس (كما يقال في الفقه الإسلامي) أمرا توقيفيا .. رأينا كيف صارت سنغافورة بعد طردها من الاتحاد الفدرالي الماليزي وهي في حجم بلدية ليبية وكيف صارت تشيكوسلوفاكيا الصغيرة جغرافيا أصلا دولتين ولم تقم القيامة بعد .. بل ربما قامت القيامة بالفعل لو ظهر تيار أحمق فاعل في تشيكوسلوفاكيا يمنع التقسيم بحجة اللحمة الوطنية! .. إذا قامت الرفقة على الاستكراد والهيمنة فلا تستغرب أن يكون الافتراق نهايتها.  
مقارنات إضافية
         أسقط النظام الملكي في مصر بانقلاب عسكري .. ذهب الملك إلى المنفى وقبل رجاله بما حدث ولم ينغصوا على الشعب المصري عهده الجديد .. سقط النظام الملكي في ليبيا بانقلاب مماثل .. ذهب الملك إلى منفاه وسكت بينما ظل رجاله ينغصون على الشعب و يتسقطون أخطاء القذافي ويبالغون في إظهارها ويسفهون أعماله ويتآمرون عليه ويوغرون عليه صدر الشعب وصدر القوى الكبرى الحاقدة أصلا ويستفزونه لاعبين على تركيبته السداسية (وخاصة العنصر الرابع وتضييقه على أثرياء المملكة) وقابليته العالية للاستفزاز ما دفعه على الأرجح لافتتاح المرحلة الثانية أي مرحلة العنف الثوري وأدى ذلك إلى تصعيد متبادل بينه وبين الشعب .. ولم ينتبه القذافي إلى الفخ الذي أوقعه فيه رجال النظام الملكي إلا بعد سنوات حيث بدأت المرحلة الثالثة مرحلة الإصلاح والاحتواء والمصالحة أو المرحلة التمهيدية لمرحلة السل ولكن هذه المرحلة التمهيدية عانت بعض التعثر بسبب ملفات قديمة مثل قضية لوكربي وحديثة مثل أسلحة الدمار الشامل.
         سقط النظام في تونس .. سكت بن علي ورجاله .. سقط نظام القذافي وظل رجاله يرفضون القبول بما حدث .. طبعا مع مراعاة أن طريقة إسقاط القذافي كانت خاطئة بكل معنى الكلمة .. وهذه الطريقة نفسها تكشف جانبا من شخصية هذا الشعب.
         استقوى العراقيون بالخارج لإسقاط نظام صدام حسين واستقوى الليبيون بالخارج مثلهم ودخلوا زيادة فيما يمكن وصفه بالحرب الأهلية لإسقاط نظام القذافي .. وبينما نجد أن العراقيين لم يسموا ما فعلوا ثورة ولم يحتفلوا بتحرير هذه المنطقة أو تلك نجد كثيرا من الليبيين على العكس من ذلك. 
         ربما احتج البعض بتسامح أو تساهل الملك إدريس وبحقوق المواطنة التي منحها دستور المملكة للجالية الإيطالية في تجاوز مؤلم ومجاني للبشاعات التي ارتكبتها إيطاليا .. ولعل الرد يكون بأن ذلك كان قرارا فوقيا وبأن الشعب لم يستفتَ في ذلك وربما لم يكن في معظمه يعلم بما يدور.
جدل العكاز والشمسية
        والسؤال الذي أتوقع دورانه بخلد القارئ : سكرتا وجبت مفاتيحها؟ .. خلاص؟ .. الجغرافيا نقطة ضعف ليبيا؟ والشعب الليبي مزعج والعزاء فيه باطل؟!!
        في سبعينيات القرن الماضي طرح أحدهم بذرة فلسفية سميتها في مخطوط لي لم ينشر بعد بالفلسفية العكوزية .. كان ذلك حينما طلب رجل متقدم في السن الكلمة في المؤتمر الشعبي الأساسي طبرق المركز ووقف ملوحاً بعكازه بحيث كان طرفه الأعوج إلى الأعلى وألقى على الحضور السؤال :   
ــ العوج منين؟
= من فوق!!
        وغادر القاعة تاركاً لجنة الصياغة في حيرة شديدة .. وقد اقترحت في المخطوط المشار إليه فلسفة مضادة سميتها الفلسفة الشماسية حيث يكون اعوجاج عصا الشماسية من أسفل .. في هذه المقالة أميل لتبني الفلسفة الشماسية .. هذا يذكرنا بالمقولتين : "عمالكم أعمالكم كما تكونوا يولّ عليكم" و "الناس على دين ملوكها" اللتين تبدوان متناقضتين أو أن لكل واحدة منهما مقامها .. وثمة رأيان في هذا المقام أيضا : من أفسد الآخر؟ :
= معمر القذافي أفسد الشعب.
= كلا .. بل الشعب أفسد القذافي.
       لعل كل واحدة من الإجابتين صحيحة بدرجة ما مع أن الأولى هي الأعلى صوتا ولكن صوت الحق قد يكون خافتا .. ولعل القذافي نفسه أراد الدفاع عن نفسه دفاعا مستقبليا شرطيا مؤجلا ضمن هذا الجدل حيث أثر عنه أن آخر ما قاله وهو في سرت قبل اغتياله بأيام هذه الشطرة :
إسّاع تعمري إن كان هو خرابك مني.
         ثمة علاقة جدلية إذن بين الاعوجاج العلوي والاعوجاج السفلي .. أي جدل العكاز والشماسية .. وكأي علاقة جدلية ثمة ميل في هذه الناحية أو تلك .. وكما يبدو فإن الغلبة للثاني في أكثر الأحيان .. وتبقى المراهنة على الفهم .. فهم الذات .. فكما أن المريض النفسي قد يعالج بجلسات بوح واستدعاء لعقد الطفولة فهذا الشعب يحتاج لجلسات مشابهة لاستدعاء عقد التأسيس والماضي ومن ثم فضح أوهام الحاضر شرط أن يحذر الطعوم والفروض الزائفة .. وهذه مهمة المثقفين الجديرين بصفة المثقف الواعي المخلص بالدرجة الأولى .. وليس هذا سوى جزء من العلاج .. هذا فيما يخص الشعب في السؤال الدائر بذهن القارئ .. أما فيما يتعلق بالجغرافيا .. وكجزء من العلاج أيضاً فلا مناص من كسر حدتها والتخفيف من مساوئها بالحل الذكي الذي ارتضاه الملك إدريس ومعاصروه وهو الحل الفدرالي والذي يعتبر سابقة ليبية مميزة تدعو الليبيين للفخر (لعل ليبيا البلد الأول أو من أوائل البلدان التي تبنت النظام الفدرالي على مستوى ما يعرف بالعالم الثالث على الأقل) وهكذا فهي سابقة تستحق الإحياء بدوافع عاطفية وبراغماتية أمنية وغيرها ولكن بمنظور وطني ناضج بعيداً عن التغني الجهوي السمج.



9/7/2015

محتويات المدونة (الفهرس)

 بدون ترقيم ولكن ترتيبه في النشر يأتي بعد المقال رقم 42 محتويات المدونة (الفهرس)      ملاحظة : تاريخيا من الأقدم إلى الأحدث أنشأت ثلاث م...