فهم الحرب الأهلية
(1)
الـمــتـــــأيّـــن
(شرح المقصود بالتأين وبالمفرد
والجمعي تحت العنوان الثاني).
أمثلة ممهدة
1
إذا
التقى لاعبان من فريقين متنافسين بعيدا عن أجواء المباريات تعانقا واحتفى كل منهما
بالآخر .. وإذا التقيا في الملعب كان كل منهما حريصا على سحق صاحبه ولا يتورع عن
ممارسة الغش من لمس الكرة باليد أو من إدعاء التعرض للخشونة من خصمه كذبا وتمثيلا
ليدفع الحكم لطرده أو للحصول على ركلة جزاء أو على الاثنتين معا .. وقد يتطور
الأمر إلى الشجار بين اللاعبين .. وكان كل ذلك يحدث حتى قبل تبني سياسة الاحتراف
.. أي قبل أن يتحول اللاعب إلى ما يشبه المرتزق.
ترى
ما سر هذا التحول أو الانقلاب في شخصية اللاعب حينما يدخل الملعب؟
2
أتنقل
بين القنوات الفضائية وأمر بعدة قنوات تعرض مسلسل الزير سالم .. كان الزير [مواطنا]
فرديا يعاقر الخمر مع صديقه الحميم وزوج أخته همام .. ولكن بعد مقتل أخيه كليب حدث
له ذلك التحول الرهيب حيث صار [مواطنا] جمعيا نكل بهمام وقومه.
ويظل
السؤال : ما سر تحول المرء من المسالمة إلى العنف؟
3
سنة
1982 فاز المنتخب الليبي على المنتخب التونسي بهدفين نظيفين ضمن تصفيات كأس الأمم
الأفريقية المقامة بليبيا .. وفي سنة 1985 قام معمر القذافي بطرد العمالة التونسية
المتركزة بغرب البلاد ضمن تصفيات أخرى بينه وبين السلطات في تونس .. كان من بين
المطرودين شاب دمث الأخلاق طيب المعشر يعمل بأحد المخابز بطرابلس .. سكان الحي
الذي كان يعمل به لم يصدقوا ما يرونه حينما ظهر على شاشة إحدى القنوات التونسية
التي تجري لقاءات مع بعض المطرودين وقد صب اللعنات على الشعب الليبي وصرح بما شكل
الصدمة : قال بأن ما يشفي غليله أنه بال في العجين حينما فاز المنتخب الليبي على
المنتخب التونسي منذ ثلاث سنوات .. ذلك الشاب الخلوق الذي عرفه سكان الحي كان [مواطنا]
في حالة الإفراد .. أما الذي بال في العجين فكان [مواطنا] تونسيا جمعيا .. وقد
احتفى به الإعلام التونسي بصفته بطلا قوميا .. من المخطوط : (كمبوت الكبرى وأحمر
شفاه).
4
عاد
أبو بكر بعد سنوات قضاها في (أوروبا) للحصول على درجة الدكتوراه وقد نالها .. بهذه
المناسبة أقامت له الأسرة احتفالية لائقة .. كان من بين المدعوين الحاج بركة الذي
طرح على الدكتور سؤالا عن البلاد التي كان يدرس بها وتحديدا عن تركيبة أهلها ..
أجابه : ــ أغلبهم نصارى وفيهم يهود وحتى مسلمين .. عقب صاحب السؤال ضاحكا : ــ
يعني مثل منطقتنا هذي! .. ومن هذه النقطة انطلق الحضور بالحديث عن النصارى مع
الإشادة بصدقهم وأمانتهم وعلمهم وإخلاصهم في العمل ومحافظتهم على المواعيد
وابتعادهم عن الغش ورفقهم حتى بالحيوان وغير ذلك من الخصال الحميدة .. تدخل أحد
الحاضرين قائلا : ــ ناقصتم قولة لا إله إلا الله محمد رسول الله ويكونوا خير منا
.. غادرت المجلس لدقائق وعدت .. وجدت أن الحديث قد انقلب من مدح النصارى إلى ذمهم
.. فهم الذين ارتكبوا الفظائع في الجزائر وقتلوا ما يزيد عن مليون إنسان قبل أن
يغادروها .. وهم الذين أبادوا أكثر من نصف سكان برقة في معتقلات جماعية .. والذين
تقاتلوا في الحربين العالميتين وزرعوا العالم ألغاما .. وألقوا القنابل الذرية على
اليابان وأحرقوا الفيتناميين بالنابالم .. قلت في نفسي : إنه التناقض .. ثم أدركت
بالتأمل أنه لا تناقض : فالمديح كان مقصودا به النصراني المفرد أما الذم فموجه إلى
النصراني الجمعي .. (المقصود بالنصارى هنا مختلف قليلا عن المقصود به إسلاميا ..
وهذا ما يفهم من السياق).
حيثيات التأين
قبل
تقديم عينة من حيثيات التأين هناك نقطتان تتعلقان بالمقصود بالتأين وبالمفرد
والجمعي :
1 ــ كل واحد منا
على وجه التعميم شخصان : شخص في حالته الاعتيادية ولنسمه [المواطن] في حالة
الإفراد أو المفرد وهو [مواطن] ذو انتماء معلق أو غير مفعل وهذا الشخص مسالم غالبا
.. وشخص منغمس في الجماعة (بمختلف تصنيفاتها) ممسوس بروحها ولنسمه [المواطن] في
حالة الجمع أو الجمعي وهذا يتوقع منه العنف بأنواعه المختلفة غالبا .. ويمكن
تسميته أيضا بالمواطن المتأين .. والتأين اشتقاق من (أين) المستفسر بها عن الموقع
.. والموقع المقصود هنا معنوي وهو التموقع أو الاصطفاف السياسي أو الاجتماعي أو
الأيديولوجي أو غير ذلك من الاصطفافات .. فإذا كان التأين هو الحالة الرابعة
للمادة فهو الحالة الثانية للمواطن .. وقد تتجاوز العلاقة بينهما حدود المصادفة
اللغوية.
2 ــ كل إنسان سواء
أكان منتميا إلى مجتمع متقدم أم متخلف حامل لجرثومة التأين وإن لم تظهر عليه
أعراضه.
أما
حيثيات التأين ودوافعه وحالاته فهي على درجة عالية من التعقيد : فمن حيث الغرض من التأين يمكن القول باثنين : دفع الضرر
وجلب المنفعة .. ومن حيث موقف المتأين : متأين بادئ بالفعل (والبادئ أظلم) وآخر تأينه ردة فعل .. ومن حيث تقييم من يدعي الموضوعية : تأين على حق وآخر
على باطل .. ومن حيث الإيمان : متأين
مؤمن بصحة موقفه وآخر يتراجع بزعم أنه مغرر به .. ومن حيث زمن نشوء أسباب التأين : تأين على علاقة
بالماضي مثل تأين جماعة ما لشعورها بظلم لحقها وربما مازال مستمرا .. وتأين على
علاقة بالمستقبل كخوف جماعة ما من تعرضها للظلم .. ومن حيث حقيقة الشعار المفعل للتأين : شعار صادق وثاني
كاذب وثالث زائف يعلن تغطية عن المخفي .. ومن حيث الخلفية
: لا يحرك المتأين وخاصة من هو في موقف الظالم أحيانا دافع جلب المنفعة فحسب بل
يحركه أيضا شعور بالتعالي على الآخر واحتقاره بفعل جرعة زائدة من النرجسية أدت إلى
تضخم الأنا الجمعية .. ومن حيث أهم
الغرائز المحركة للتأين : حب البقاء وحب التملك وأحيانا حب الظهور .. وهذه عينة
فحسب.
وبعض
الدوافع السابقة يمكن وضعها على هيئة حزم متداخلة تجمعها حزمة المطامع وهو عنوان
عام يتفرع إلى مطامع بحتة تختص بها كل
جماعة سعت لمصالحها بإيقاع الظلم بالآخرين .. ومطامع مبررة
تمليها الضرورة تختص بها كل جماعة سعت لدفع الضرر ورفع الظلم الواقع ويمكن تسمية هذه الحزمة بالمظالم
وهي مرتبطة بالماضي أو الحاضر .. ومطامع مبررة
هدفها درء الضرر ورفع الظلم المتوقع ويمكن
تسميتها بالمخاوف وهي متعلقة بالمستقبل ومن هنا كانت خطورتها العالية.
الأفراد
المنغمسون في العنف الجماعي بدافع الحصول على منافع خاصة (من تجلياتهم المرتزقة
المحليون والأجانب وغيرهم) يمكن وصفهم بذوي المطامع الفردية وهم خارج سياق هذه
المقالة أما من يقوم بتمويلهم إذا كان مؤمنا بتأينه فهو داخل السياق بالطبع.
التأين والحرب الأهلية
فيما
يتعلق بالشعار كمفعل للانتماء :
1 ــ المظالم
والمخاوف يرفعان كشعار عادة يمكن اعتباره الصيحة التي تؤدي إلى تفعيل الانتماء إلى
الجماعة والتحول من حالة الإفراد إلى الحالة الجمعية أي التأين وهي المرحلة
الممهدة للحروب الأهلية.
2 ــ الشعارات التي
يمكن أن تفعل الانتماءات المعلقة تدور حول قضايا والقضايا نتاج خلل ما هو ما يوصف
بالفتنة النائمة .. ورفع الشعار للمصلحة العامة أو للمصلحة الخاصة يؤدي إلى إيقاظ
الفتنة (شرارة الحرب الأهلية) واللعنة التي تصب على الموقظ أكثر من يستحقها الموجد
الذي أوجد الفتنة النائمة ووفر لها سريرا وثيرا وموسيقى هادئة لأن دور الموقظ
هامشي والفتنة ما دامت موجودة سوف تستيقظ إن عاجلا أو آجلا بموقظ أو بدونه ..
وأثناء نومها يعاني المجتمع حالة رعب يحرص خلالها على الحذر الشديد خوفا من
إيقاظها أو لمسها كأنها قنبلة مفخخة .. ما قد يجعل إيقاظها ومحاولة ترويضها أو
قتلها وذلك بالاعتراف بداية بوجود الخلل أقل ضررا على المجتمع من تركها نائمة! ..
على المريض الراغب في الشفاء أن يعترف بمرضه أولا.
3 ــ هناك فصل تام
بين صدق الشعار وصدق رافعيه .. وكذب من يرفع الشعار لا يكذب الشعار بالضرورة ..
فقد نجد أشخاصا يرفعون شعار مظلمة برقة ومخاوفها من مزيد من الظلم والتهميش وهم في
الواقع إنما يرفعونه لمصالحهم الخاصة فهم كاذبون في رفعه (كلمة حق يراد بها باطل)
ولكن ذلك لا يعني بالضرورة نفي مظلمة برقة ومخاوفها .. إذ ينبغي التحقق من وجود
هذه المظالم والمخاوف بمعزل عن كذب من يرفعون الشعار .. بعبارة أخرى : الاعتراف
بالحق بصرف النظر عما يراد به.
فيما
يتعلق بمبررات التأين :
1 ــ لا يحكم على
المواطن المفرد ولا على الجمعي بالسيئ أو بالحسن دائما إذ لكل حالة حكمها الذي
يبنى على ملابساتها الخاصة .. فعلى عكس المتوقع قد تكون المسالمة سيئة في موضع
والعنف ضرورة في موضع آخر .. والعكس صحيح في الحالتين .. مع الانتباه لتأين مصدر
الحكم .. فالأحكام نسبية.
2 ــ تبدي جماعة
كبيرة من المهتمين بالشأن العام استغرابها من العنف الذي انفجر بين الليبيين منذ
2011 وهم يشكلون شعبا صغيرا تربطه أواصر المصاهرة والقربى والصداقة .. لهؤلاء أقول
بأن في الأمر كما يبدو التباسا : أنتم تتحدثون عن المواطنين الأفراد حيث لهذه
الأواصر فعلها وأهميتها .. أما حينما يكون المواطن مواطنا جمعيا متأينا فهذه
الأواصر لا قيمة لها على الإطلاق .. وجهود كل من له اهتمام بالشأن العام ينبغي أن
تنصب على فهم ودراسة سلوك المواطن الجمعي لا المواطن الفرد .. فمن المعروف أن
الشجار وربما الاقتتال قد ينشأ بين الأفراد بدون أسباب أو لأسباب تافهة ولكن الجماعات لا تتقاتل ولمدة طويلة من
فراغ .. وحتى لو كان رافع الشعار كاذبا قد رفعه لمصلحته الخاصة فإن من
اتبعه أنما اتبعه لاقتناعه بصدق الشعار ولم يهتم بصدق من رفعه .. وإرجاع السبب إلى
التدخل الخارجي هروب من البوح بالأسباب الحقيقية والتي جلها محلية المنشأ.
فيما
يتعلق بنسبة الخارج والداخل :
1 ــ الخارج عامل
مساعد والتفاعل حادث به وبدونه .. ثم أن التدخل الخارجي مثل الفيروس الذي لا يلام
على سلوكه إذ اللوم يقع على جهاز المناعة .. هذا عن أسباب الحرب الأهلية لا عن
تداعياتها التي منها ازدياد النفوذ الخارجي بالطبع .. هذا عن أسباب تهاوي البقرة
ووقوعها أرضا لا عن كثرة السكاكين.
2 ــ كثيرا ما تطرح
نظرية المؤامرة حين الحديث عن دور الخارج في الصراعات الأهلية .. ربما من الأفضل
القول بنظرية التوظيف بدلا من القول بالمؤامرة .. بعبارة أوضح : الخارج لا يختلق
أزماتنا ولا ملفاتنا المتعبة ولكنه يستغل ما هو موجود منها بالفعل ولو لم توجد لما
استطاع أن يفعل شيئا.
فيما
يتعلق بالنرجسية كمفعل للتأين :
1 ــ لا تتأين
الجماعة جلبا لمنفعة أو دفعا لضرر فحسب بل قد تسلك العنف بأنواعه المختلفة تحت
وطأة الشعور بالتفوق والتميز وترى في الآخرين تشويها للمنظر العام الذي تحتل هذه
الجماعة مركزه .. إن سلوكها هنا يمثل حالة من التنمر الجماعي .. ومبعث هذا التنمر
حالة من التفاخر تعتقت عبر الأجيال فتحولت بمرور الزمن إلى أساطير تتضخم في مخيال
الجماعة يؤدي بها إلى السلوك المدمر لها ولمحيطها .. النرجسية سلاح الأقليات غالبا
التي تخشى الاندماج أو تلك التي لا تريده .. وتتخذ الأقلية النرجسية كشرنقة للحماية
فتؤدي إلى اختناقها بسبب ردة فعل الأكثرية تجاهها .. لم يحظ اليهود شيئا فشيئا بالسطوة إلا بعدما خرجوا من شرنقة الجيتو.
2 ــ إن النرجسية
الجمعية تمظهر من تمظهرات العنصرية أو عرض من أعراضها وهي لا تقل تدميرا للمجتمع
وخطورة عليه عن المظالم والمخاوف .. وفي كل قصيدة فخر بجماعة ما أو مدح لها غالبا
إرهاص بحرب أهلية قد تقع ولو بعد حين لأن في كل مدح صريح للذات هجاء ضمنيا للآخر
.. وفي بعض الحالات المرضية المتقدمة يصل الأمر بالجماعة المصابة بهذا الداء
للشعور المسيطر بمسؤوليتها على إصلاح العالم بالقوة والعنف.
3 ــ قد يتخذ العنف
مبررات زائفة تخفي مبررات حقيقية .. فما يسمى بالعنف الديني مثلا رمزه الآن اللحية
ظاهريا بالطبع التي قد تكون قناعا للعنف الجهوي أو القبلي أو المناطقي أو العرقي
أو الطبقي أو الطائفي أو نتاجا لتعالي طرف على آخر بسبب جرعة زائدة من النرجسية
أدت إلى تضخم الأنا الجمعية .. لسان حال العنيف المقنع بتشديد النون : المهم
القضاء على الآخر بأي ذريعة أو تهمة وإن كانت ملفقة .. لنقل مثلا : لأنه مرتد ..
وتهمة الردة مفضلة لأن لها ميزتين على الأقل : أولا : لا يمكن نفيها ولا إثباتها
.. والشك هنا لا يفسر أو يجير لصالح المتهم .. ثانيا : تؤدي إلى إقحام الله شخصيا
وظاهريا في الصراع .. ولمن تكفيه الإشارة يمكن القول بأن اللحية الرمز بعد 2011 في
درنة ليست هي اللحية الرمز في إجدابيا على سبيل المثال ولذلك اختلف مسار الأحداث
بالنسبة لهاتين المدينتين .. بالبحث الجاد والموضوعي الذي يحسن تحسس الملامح
والتجاعيد في كل حالة على حدة يمكن التأكد من حقيقة اللحية ما إذا كانت قناعا أم
لحية!.
وبعيدا
عن اللحية والعنف ذي الغطاء الديني ثمة أمثلة على الشعار الزائف ذي النكهة
النرجسية أو العنصرية منها تأين المصاريت ضد بني وليد بالقرار رقم (7) وقد فضحه
تعليق صور السويحلي بعد قرن تقريبا على مقتله .. وربما هذا ما يصدق على تأينهم ضد
تاورغاء .. أما تأين تاورغاء أولا ضد مصراتة فلعله كان على علاقة بالمظالم وربما
خالطه شيء من المطامع الفردية.
فيما
يتعلق بسلم التأين :
1 ــ هناك ما يمكن
تسميته بسلم التأين وهو ترتيب أولويات الصداقة والعداوة ومن المقولات الشارحة :
عدو عدوي صديقي .. والمثل المصري : أنا وخوي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب
.. ولكن يحدث أحيانا أن يقال : أنا والغريب على ابن عمي أو على أخي وفق تحولات في
سلم التأين تفرضها حسابات خاصة لا علاقة لها أحيانا بالحب أو الكره أو الانتماء
الجيني .. فعرب المشرق حينما تحالفوا مع بريطانيا في الحرب العالمية الأولى ضد
الدولة العثمانية وقد أعطوا الأولوية للعامل القومي بسبب عنصرية الأتراك أو
شعوبيتهم لم يكونوا يحبون بريطانيا ولا يكرهون الأتراك بالضرورة ولكنها المظالم
والمخاوف على الأرجح وربما أضيف إليها المطامع الفردية فيما يخص الشريف حسين.
2 ــ يفسر عنف
المؤمنين بإمكانية إحياء الخلافة وضرورتها وتجاوز تحالفاتهم حدود الدولة الوطنية
بأنه تأين بني على قراءة قد تكون معيبة تتعلق بسلم التأين .. بالإضافة إلى مآخذ
أخرى.
فيما
يتعلق بتداعيات الحرب الأهلية :
1 ــ تشتعل الحرب
الأهلية بفعل من تأين وينغمس فيها طفيليو الحروب من ذوي المطامع الفردية ويتوسع
نفوذ الخارج وصراع النفوذ .. ولأن الاقتصاد عنصر أساسي في كل صراع محلي أو دولي
يصر أصحاب المصالح الاقتصادية على استمراره.
2 ــ تظهر مجالس الحكماء
والعقلاء ويبرز المحللون والفلاسفة عادة كنتاج لكل صراع إنساني .. والمفارقة
أن الأحداث تكشف عن قدر لافت من الحكمة
عند الكثيرين على مستوى التنظير حتى ليقول المراقب في نفسه : هذا العالم المجنون
متخم بالحكمة.
3 ــ يتعب
المتصارعون حتى قبل حسم أسباب الصراع برفع المظالم أو طرد المخاوف .. وتنتشر ثقافة
الدعوة للمصالحة والتسامح ولكن الصراع يستمر لأنه ببساطة لا أحد يقبل بأن يكون أبا
موسى الأشعري .. وانتهاء الصراع نتيجة تعب أطرافه أمر لا يبعث على الطمأنينة لأنه
بعد الاستراحة قد يعود المحارب إلى الساحة من جديد.
4 ــ أمام طغيان
خطاب المصالحة وانزواء خطاب المصارحة يتم التكتم عما حدث وعن أسبابه ويتم التواطؤ
الجمعي على عدم حفظ الذاكرة ما يجعل وقوع المجتمع في الحروب الأهلية مرارا وتكرارا
أمرا واردا وبقوة.
التأين في كلام العوام
أنت
امعانا وإلا احذانا؟ .. سؤال تطرحه الجماعة عادة على أحد أفرادها حينما يكتنف
اصطفافه بصفة عامة الغموض .. وهذا هو سؤال التأين.
وهناك
كنايات عامية تؤكد وجود حالة التأين .. من هذه الكنايات قول أحدهم : كربتني النفس
.. أي أن نفسي شدتني إلى جماعتي فانحزت إليها .. والكناية : قولة حت اتلم البل ..
أي إطلاق صيحة التجميع في الإبل المتفرقة يؤدي إلى تجمعها .. وهي كناية عن تفعيل
الشعور بالانتماء إلى الجماعة لدى الأفراد لدافع من الدوافع .. وفي الأمثال ما
يهون من خطورة التأين منها : ما تعمر نين تخرب .. وما صحبة إلا بعد عداوة .. كما
أن الشعر العامي ليس بمنأى عن التأين.
ومن
العبارات الغامضة ذات العلاقة قول أحدهم : بالنسبة لي قبيلتي ليبيا .. هذه العبارة
تفهم وفق سلم التأين إذا صدرت عن مواطن ليبي تعود أصوله إلى بلاد أخرى
هي وليبيا في حالة حرب حينما يطرح عليه سؤال التأين من قبل الليبيين
فيرد : أنا معكم أنا قبيلتي ليبيا ولا علاقة لي بأصول أسلافي الغابرين .. وأما
وأنها تقال تعليقا على صراعات محلية فإنه من الصعب فهمها .. ترى ما تفسير ترديدها؟
وما مدى صدق مردديها؟ .. الاحتمالات الأكثر ترجيحا أن من يرددها إما أنه مخادع
يتظاهر بالتخلي عن انتماءاته الفرعية لعل هذا التظاهر ينطلي على الآخرين فيتخلون
عن انتماءاتهم سذاجة وغفلة .. أي يقعون في ما وقع فيه أبو موسى الأشعري في حادثة
التحكيم .. أو أنه يقصد نسخة خاصة من ليبيا تتسق مع انتماءاته الضيقة .. أو أنه
براغماتي ذو مطامع فردية يردد ذلك طمعا في نفع سياسي (انتخابي) بالظهور كشخصية
توافقية محايدة .. أو أنه مواطن في حالة الإفراد ولم تظهر عليه بعد أعراض التأين.
التأين في الشعر العربي
كل
شعر الحماسة قديما والأناشيد القومية الحافلة بالفخر حديثا منشطات للتأين
والاستقطاب .. ولكن أشهر مثال كما يظن على التأين بيت دريد بن الصمة (وهل أنا إلا
من غزية) .. ومن الأفضل إيراده مع ما قبله من أبيات :
أمرتهم أمري بمنعرج
الــلـــــوى فلم
يستبينوا الرشـد إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد
أرى غوايتــــهم
أو أنني غير مهــــــتــد
وهـل أنـا إلا مـن غزية إن
غوت غويت
وإن تــرشــد غـزية أرشــد
هذه
الأبيات لا تمثل على الأرجح حالة التأين لدريد إذا ما أخذنا قصتها أو المناسبة في
الاعتبار .. أما إذا أخذنا بالمبدأ النقدي (موت المؤلف) بمعنى فصل الأبيات عن
المناسبة فهي وخاصة البيت الثالث مثال شديد التطرف على التأين.
التأين في القرآن الكريم
آيات
كثيرة على صلة ما بالموضوع منها الآيات التي تحبذ التأين بالقول بضرورة التدافع ..
ولكن يمكن الاكتفاء بما له علاقة بالتأين من الآية رقم (75) من سورة آل عمران :
{ومن
أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يؤده إليك
إلا مادمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل}.
ولتبيان
علاقتها بالتأين تقسم إلى ثلاثة أجزاء على النحو الآتي :
1 ــ { ومن أهل
الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده إليك} الحديث في هذا الجزء عن الكتابي المفرد يتضح
ذلك من خلال ضمير الغائب المفرد في (تأمنه) ، (يؤده).
2 ــ { ومنهم من أن
تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائما} والحديث فيه عن الكتابي المفرد
كما يبدو للوهلة الأولى ولكن بالانتقال إلى الجزء الثالث الخاص بالتبرير والمتصل
بهذا الجزء نلاحظ أن الآية لم تقل : (ذلك بأنه قال : ليس علي في الأميين سبيل) وهو
المتوقع ليتسق مع الحديث عن المفرد في الجزأين السابقين بل قالت :
3 ــ {ذلك بأنهم
قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} حيث الضمائر الدالة على الجمع في (بأنهم) ،
(قالوا) ، (علينا) على الترتيب .. لأن الكتابي المفرد في الجزء الثاني هو في
الحقيقة كتابي جمعي أو متأين يحركه شعار الجماعة والانتماء إليها ولذا فضمائر
الجمع تناسبه .. قد يرى البعض بأن ضمائر الجمع للإشارة إلى أن هذا السلوك العنصري
هو الغالب .. الاحتمالان لا تعارض بينهما.
ومن
الآية نلاحظ أن المتأين : أهل الكتاب .. المستهدف بالتأين : الأميون .. والتبرير
فيها ما جاء في الجزء الثالث بعد {قالوا} .. كما نلاحظ اختتام الآية بالتعقيب على
التبرير : {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} في إشارة إلى الاتكاء كذبا على
مقدس مزعوم ربما كان تغطية على نرجسية شعب الله المختار أو أية دوافع عنصرية أخرى
(معضلة اللحية والقناع).
ذكرت
الآية أهل الكتاب ولكن سلوك التأين ليس حكرا عليهم .. يمكن وضع أي جماعة أخرى مكان
(المتأين) هنا وجماعة أخرى على علاقة به مكان (المستهدف بالتأين) مع اختيار
التبرير المناسب .. والجملة الخبرية أو القضية المتحصل عليها من ذلك تصدق غالبا.
كانت
هذه مقاربة لمفهوم التأين العنصر الأهم في الحروب الأهلية وفاعله (المتأين) بنيت
على استقراء الواقع .. وقد جاءت مختصرة على هيئة رؤوس أقلام لقلة القراء ذوي النفس
الطويل وبذلك فهي في حاجة ماسة لنقاش يثريها ويخفف من نبرتها الواثقة!.