السبت، 1 يناير 2022

معالجات ما قبل الدستور (1) الأخطاء المطبعية في المسألة الليبية

 

معالجات ما قبل الدستور

 

(1)

 

الأخطاء المطبعية في المسألة الليبية

 

 

أين الخلل؟ في النص أم في الواقع؟

     التلميذ النجيب الواثق من نفسه يحاول حل المسألة الرياضية وعينه على النتيجة النهائية المعطاة بالصفحات الأخيرة من الكتاب المدرسي .. يحاول مرارا وتكرارا لكن النتيجة التي يصل إليها في كل مرة لا تتفق وتلك المفترضة بنهاية الكتاب .. يساوره الشك في نفسه ويغازله الإحباط .. ولا يخطر بباله أبدا أن الخطأ يكمن في معطيات المسألة .. ثمة أخطاء مطبعية فيها طوحت به بعيدا عن الحل المفترض.

    في مثل هذا الموقف وقعت كما يبدو لجنة الدستور الحالية .. لقد اجتهد الليبيون في الخطوات الصحيحة لاختيارها وأهمها جعلها منتخبة ومستقلة وممثلة للأقاليم لثلاثة .. ولكن مع ظهور كل مسودة يصرخ بعض الليبيين كالمجانين : معيبة .. معيبة .. معيبة .. فأين الخلل؟ وهل ثمة أخطاء مطبعية في المسألة أو الكيان الليبي؟ وما هي؟

    المتابع الموضوعي لعمل لجنة الدستور يرجح بقوة أن العيب ليس فيها بل في الكيان الليبي المستهدف بالعثور له من قبل اللجنة على بدلة دستورية تليق به وتستر عورته .. إذ كما يبدو أن هذا الكيان يعاني عيوبا خلقية وعورات فظيعة تجعل العثور على البدلة المنشودة من الصعوبة بمكان.

    الدستور نص يفصل على واقع .. فإذا تعسرت عملية التفصيل فمن الحكمة توقع الخلل في كل من النص والواقع على السواء .. وإذا كان الخلل في الواقع صار من الأنسب الشروع في معالجات يمكن تسميتها بمعالجات ما قبل الدستور وهي خطوة بمثابة تصحيح الأخطاء المطبعية في المسألة قبل الشروع في حلها .. وإذا ما تمت هذه المعالجات بصورة صحيحة فسوف يكون من السهولة بمكان التوصل إلى الصيغة الدستورية المناسبة.

    كثيرة هي المؤشرات التي ترجح بقوة وجود الخلل في الكيان الليبي : فقد مرت ليبيا في القرون الخمسة الأخيرة بسبعة عهود سياسية مختلفة كل الاختلاف وهي على الترتيب : العهد العثماني الأول والعهد القره مانلي والعهد العثماني الثاني والعهد الإيطالي وعهد المملكة وعهد القذافي والعهد الحالي .. وفي كل هذه العهود المختلفة ظل الكيان الليبي كما يبدو في شبه موت سريري.

    وقد رأينا في هذا العقد الممتد من 2011 إلى 2021 إعادة تمثيل لتاريخ ليبيا في القرون الخمسة الأخيرة في فيلم أرجو أن يكون قصيرا .. فقد لخصت هذه القرون في عقد واحد .. لخص تاريخ سكت عن كثيره وكتب قليله وما كتب لم نقرأه جيدا .. أما هذه المرة فعلينا أن نكتب الملخص بنصه وشروحه ونقرأه بعناية من أجلنا ومن أجل الأجيال القادمة .. فالتاريخ معلم كثير المشاغل ودروسه مؤلمة ولا قدرة لنا على احتمال ملخص آخر ولا حاجة لأن يعيد التاريخ نفسه كعادته السمجة دائما.

     ويظل السؤال : ما العلة المزمنة التي يعانيها هذا الكيان الذي تداول تشخيصه وعلاجه هؤلاء الأطباء السبعة على مدى خمسة قرون عجاف بلا جدوى؟ حتى اضطر التاريخ لأن يعيد نفسه؟ .. علينا البحث عن الإجابات الصعبة والمحرجة إذ الأمر صعب ومحرج.

لعلها الجهوية

    البحث عن الإجابة يركز على الثابت التاريخي خلال هذا الزمن الطويل الأطول من كرعين الميت .. فقد يكون هذا الثابت هو الخطأ الطباعي أو المطبعي المسؤول عن استحالة التوصل إلى الحل.

    من أهم الثوابت التاريخية خلال هذه العهود السبعة العاصمة وانقسام ليبيا إلى ثلاثة أقاليم أحيانا وجهتين : (غرب وشرق) دائما .. بالنسبة لدور العاصمة سوف نتناوله لاحقا .. وأما بالنسبة للأقاليم الثلاثة فالمتأمل في تاريخ ليبيا يلاحظ أن ثلاثتها لم تكن دائمة دوام كل من العاصمة والجهوية .. وثمة دلائل كثيرة تؤكد على هامشية دور الأقاليم الثلاثة في المسألة الليبية .. أما الصراع الجهوي الثنائي فالدلائل على وجوده وحدته لا تخطئها النظرة العابرة ناهيك عن الفاحصة.

    وبالإضافة إلى أن الصراع في ليبيا جهوي بامتياز وعلى درجة كبيرة من الحدة .. فهو أيضا الصراع الحامل لغيره من الصراعات .. حيث تتخذ هذه الأخيرة عادة تموضعا جهويا .. من أمثلة ذلك صراع الإخوان وخصومهم .. إذ تركز الطرف الأول في غرب ليبيا بينما تركز الثاني في شرقها .. كذلك صراع النفوذ الخارجي في عهد المملكة والعهد الحالي حيث توزع بين الجهتين .. والوجود الإيطالي بعد الاستقلال! فقد عرف في جهة دون أخرى .. والأمثلة كثيرة على هذا التموضع الجهوي للصراعات الفرعية الطارئة.

     كما أن الصراع الجهوي في ليبيا ماضيا وحاضرا ومستقبلا ثنائي : (شرق وغرب) بغض النظر عن عدد الأقاليم التي توصف بالتاريخية .. واستقرار ليبيا وتوحد مؤسساتها لا يعني بالضرورة توقف الصراع الجهوي .. يعني فقط تبدل آلياته وأشكاله مع احتمال العودة للآليات والأشكال الراهنة.

     الصراعات الجهوية في البلدان التي تعاني منها ثنائية دائما : شرق وغرب أو شمال وجنوب .. وحتى على مستوى العالم نجد هذا التصنيف أيضا فهناك الشمال المتقدم  والجنوب المتخلف أو الغرب والشرق اللذان لا يمكن لهما أن يلتقيا كما يقول الشاعر الإنجليزي Rudyard Kipling :

"Oh, East is East, and West is West, and never the twain shall meet"

     جعل ليبيا بلادا لا شمال لها بل شرق وغرب وجنوب تزييف لا يصمد أمام التأمل العميق .. فكما أن ليبيا لا شمال لها فكذلك لا جنوب لها .. إذ أن الجنوب المتحدث عنه دائما هو جنوب طرابلس لا جنوب ليبيا.

    ثمة عامل يشكل تشويشا ويخلق انطباعا زائفا بأن الصراع الأهم في ليبيا ليس جهويا وهذا العامل هو كثرة الصراعات العرقية والمناطقية والقبلية في غرب ليبيا والدور المربك الذي تلعبه مصراتة غالبا ما يؤدي أحيانا لعقد ما يشبه التحالفات المؤقتة مع برقة (ما حدث في 2011) مثلا .. لكن هذا الأمر نادر الحدوث وإن حدث فلفترة قصيرة.

ولعلها العاصمة

     ما يؤكد الدور الذي تلعبه العاصمة في تعثر ليبيا نشوب خلاف كبير مبكر ومستمر حولها .. ففي لجنة الدستور الأولى وقع تنازع حول اختيار العاصمة وكان الحل الغريب والنادر الذي اختاره الملك إدريس وذلك بالقول بالعاصمتين .. وهي بدعة دستورية لا وجود لها في أي دستور آخر.

       من الدلائل أيضا إصرار معمر القذافي على انتقال العاصمة إلى سرت وتلكؤ الأمناء (الوزراء) وإرسال وكلائهم فقط ما دفع معمر للأمر بهدم مقر الحكومة في طرابلس .. ولكن كل المؤسسات عادت بعد فترة إلى طرابلس وفي وجود معمر نفسه.

      ومنها أيضا طرح قضية العاصمة مرة أخرى بعد 17 فبراير 2011 وذلك بتقديم خمسة تصورات لمعالجة الصراع الجهوي ..  أربعة منها تدور على العاصمة وإن لم يصرح بذلك بل قيل إنها لمعالجة المركزية .. وفي الواقع فإن المركزية ليست مشكلة في ذاتها .. فكثير من البلدان تتبناها ولا احتجاج ولا اعتراض عليها .. إنها مشكلة فقط حينما يكون هناك صراع جهوي حاد .. وعلى ذلك فالشكوى من المركزية في ليبيا دليل ضمني من أدلة كثيرة على وجود الصراع الجهوي وحدته ودليل على توظيف العاصمة جهويا.

     أما التصورات الأربعة فكانت على النحو الآتي :

1 ــ بدعة العاصمتين (تصور قديم جديد) .. أعيد طرح هذا التصور ضمنا من خلال المطالبة بالعودة لدستوري المملكة حيث المادة (188) الخاصة بالعاصمتين ، 2 ــ بدعة توزيع مؤسسات الدولة جغــرافيا ، 3 ــ الفيدرالية ، 4 ــ اللا مركــزية أو توسيع صلاحيات الحكم المحلي.

     أول ما يلاحظ على هذه المعالجات الأربع دورانها على العاصمة وإن لم يصرح بذلك : ففي المعالجة رقم (1) محاولة استنساخ العاصمة .. وفي رقم (2) محاولة تفتيتها .. وفي رقم (3) محاولة تقزيمها .. وفي رقم (4) محاولة التقليل من شأنها.

       وبالنسبة للبدعتين الدستوريتين : رقمي (1) ، (2) فيكفي لنقدهما وصفهما بالبدعة الدستورية حيث لا لسابقة ولا لاحقة حتى الآن لبدعة العاصمتين عالميا (المصدر أحد أعضاء لجنة الدستور الحالية) .. وهي بالإضافة إلى شذوذها الدستوري فإنها تمثل حلا تلفيقيا غير قابل للتطبيق .. والمطلع على أدبيات المملكة يجد الشكوى الدائمة من مسؤولي تلك الحقبة من تنقل مؤسسات الدولة العليا الدوري من عاصمة إلى أخرى.

      وقريب من بدعة العاصمتين في الشذوذ الدستوري بدعة توزيع المؤسسات جغرافيا حيث لم يؤخذ بها على الأشهر إلا في جنوب إفريقيا (المصدر السابق).

       أما المعالجة الخامسة فلا علاقة لها بالعاصمة ولكنها على علاقة قوية بالصراع الجهوي الثنائي المحور جهلا أو تزييفا إلى ثلاثي بعدد الأقاليم وهي المحاصصة في المواقع المهمة .. رأينا ذلك في تشكيل المجلس الرئاسي .. وفي تشكيل لجنتي الدستور القديمة والحالية .. وفي رئاسة كل من مجلس النواب والمؤتمر الوطني ونوابها .. وغير ذلك من الأمثلة .. وهذه المحاصصة على درجة كبيرة من الخطورة على مستقبل ليبيا ما لم نسرع بمعالجة الصراع الجهوي بطريقة أخرى آمنة وأقرب للعدل.

     والمعالجات الخمس تشترك في قابليتها للإلغاء من قبل السلطة التشريعية متى أرادت ذلك مثلما ألغيت الفيدرالية في عهد المملكة ..  ومن المعروف أن الأغلبية المهيمنة في مجلس النواب وفي مجلس الشيوخ إن وجد من نصيب الجهة الغربية وكذلك رئاسة الدولة ومعظم السلطة التنفيذية .. فالعاصمة ومعظم السلطة حاليا من نصيب جهة واحدة الأمر الذي يخل بالتوازن الجهوي المطلوب.

     هذا عن المشكلة الأهم التي تعرقل الوصول إلى صيغة دستورية مقنعة.

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محتويات المدونة (الفهرس)

 بدون ترقيم ولكن ترتيبه في النشر يأتي بعد المقال رقم 42 محتويات المدونة (الفهرس)      ملاحظة : تاريخيا من الأقدم إلى الأحدث أنشأت ثلاث م...