لا بيعة في عنق الليبي
بداية وللتمهيد لليبيا جديدة بالفعل يفضل
العمل على التخلص من الأوهام المعرقلة وأهمها وهم الوريث الشرعي والدستور الشرعي.
الشرعية نوعان : الأولى : شرعية قانونية يحوزها
الحاكم أو ولي الأمر بالاستفتاء أو بالانتخابات أو بالمراسيم من نظام أعلى منه
(قديما الولاة من الخليفة وحديثا حاليا في ليبيا المجلس الرئاسي مما يسمى بالمجتمع
الدولي وإن كانت مشروطة) .. والثانية : شرعية شعبية تتجلى في مظاهر التأييد الشعبي
.. والأسرتان اللتان تتنازعان الشرعية المزعومة في ليبيا الآن هما الأسرة السنوسية
الفرع المهدوي وأسرة معمر القذافي.
فيما يخص إدريس السنوسي فإن الكيفية التي
نصب بها كأول ملك لليبيا لم تكن بالانتخاب بل بموافقة مجموعة من الأشخاص وصفوا
أنفسهم بالأعيان والذين لم ينتخبوا بدورهم .. ومنهم من اختاره إدريس نفسه ..
وتحدثوا باسم الشعب بدون تفويض منه .. وكانت هذه هي الشرعية القانونية وهي تشبه
البيعة في الدول الإسلامية الأولى .. وقد سميت في بعض الوثائق كذلك .. ولا ننسى أن
ذلك كان بضغط أو على الأقل توجيه من قوى خارجية .. وصفق له الناس وهتفوا له في
بدايات حكمه .. وكانت هذه هي الشرعية الشعبية.
قامت الدولة الليبية (المملكة) كما يقول
بعض الليبيين تفاخرا بقرار من الأمم المتحدة ولكن ما قد يراه البعض مدعاة للتفاخر
كان من جهة أخرى مدعاة للخجل .. ثم أن ملابسات قيام الدولة هذه وعلى هذه الكيفية
أخذت تنخر في جسمها مع عوامل أخرى حتى أسقطتها .. وتمثلت العوامل الأخرى في وجود
القواعد العسكرية الأجنبية التي أدخلت النظام في صدام مع الشعب ومع محيطه وجعلت
ليبيا ميدانا لصراع القوى الخارجية المتنافسة .. ومنها ظهور جمال عبد الناصر ..
وصراعات العائلة السنوسية بل عداواتها البينية .. والدور الذي كان يقوم به إبراهيم
الشلحي وأبناؤه .. وانحصار ولاية العرش في الفرع المهدوي القليل العدد مقارنة
بالفرع الشريفي.. وعدم وجود خلف للملك من
صلبه وغيرها.. وأقدم هذه العوامل ما يتعلق منها بالمشاكل البينية على مستوى
العائلة السنوسية.
فقد تولى إدريس منصبه مثقلا بعداوة قديمة متجددة بينه وبين بعض أبناء عمومته من الفرع الشريفي من أهم وأول أسبابها إخلاله بالعهد أو الميثاق الذي أعطاه لأحمد الشريف بتولية ابنه العربي أحمد الشريف ولاية العهد وذلك في نهاية الحرب العالمية الأولى ونصب إدريس أخاه محمد الرضا بدلا منه وليا لعهد الإمارة .. وبعد توليه حكم ليبيا أعاد تنصيب أخيه محمد الرضا وليا للعهد ولكن لعرش المملكة هذه المرة .. وتصاعد هذا العداء حتى توج بقتل ناظر خاصته الملكية إبراهيم الشلحي عام 1954م على يد أحد الشريفيين.
وبعد مقتل إبراهيم الشلحي بعام توفي محمد الرضا
فولي ابنه الحسن محمد الرضا العهد .. وكان شابا استطاع بعض الشريفيين تحريضه على
الملك فأخذ يسخر منه فكان أن تجاهله وإن تركه في منصبه .. وقبل وفاة أخيه بقليل تزوج
مرة ثانية طمعا في أن يكون له وريث من صلبه .. ولكنه لم يرزق بالوريث المنشود .. فزهد
إدريس مجبرا في الملك .. وقرر أن يترك
الليبيين لمصيرهم .. وأعلن استقالته عام 1964م بحجة اعتلال الصحة والتقدم في السن ..
وإن طرحت بعض الصحف الغربية حينها تفسيرا آخر لتلك الاستقالة لا علاقة له لا
بالزهد في الحكم ولا بالصحة .. بل فسرته بمناورة سياسية على علاقة بتصفية القواعد
العسكرية الأجنبية في تفاصيل لا يتسع المقام لذكرها .. وبضغط من بعض القيادات
وتحشيدها للناس دفع للعدول عن الاستقالة.
وقد تصاعدت في تلك الفترة المظاهرات
المعارضة وخاصة في بنغازي .. وتكررت سنويا إحياء لذكرى ضحاياها وتردد فيها هتاف :
حكم إبليس ولا حكم إدريس .. وفي ذلك بداية لسحب الشرعية الشعبية منه .. أما
الشرعية القانونية فقد تنازل عنها للمرة الثانية والأخيرة مختارا وبقرار نهائي
حينما كتب خطاب استقالته بتاريخ 4/8/1969 وعهد به للشيخ عبد الحميد العبار رئيس
مجلس الشيوخ يومها .. على أن يقدمه إلى البرلمان في 2/9/1969 .. وترك لأعضائه حرية
تنصيب ولي العهد الحسن ملكا لليبيا أو عدمه .. وكانت صلاحية البرلمان قد انتهت قبل
ذلك في مايو 1969 .. وقد داهم الوقت والقذافي أعضاء البرلمان المنتهي الصلاحية فلم
يتمكنوا من الفصل في الموضوع.
بل إن شهادات من معاصرين تفيد بأن انقلابا
يقوده أحد قادة الجيش هو العقيد عبد العزيز الشلحي كان معدا بعلم الملك وعلم ولي
عهده وموافقتهما للإطاحة بالنظام الملكي برمته.
وهذا كله يسقط صفة صاحب الحق أو الوريث
الشرعي في حكم ليبيا التي يسبغها البعض على المدعو محمد الحسن الرضا المقيم
ببريطانيا .. إذ أن النظام الملكي أسقط نفسه وأسقط حق الفرع المهدوي في الحكم من
خلال الترتيبات التي سبقت استيلاء معمر القذافي على السلطة بقليل .. أما الفرع
الشريفي فقد أقصي عن السلطة أصلا بفعل المراسيم الملكية الصادرة عن الملك في
السنوات الأولى من عمر المملكة.
وهكذا حينما جاء معمر القذافي كانت ليبيا
في فراغ سياسي حقيقي .. وصفق الناس له في البداية وخرجت الجموع الكبيرة بعفوية
لتأييده وفي ذلك تأكيد لنقل الشرعية الشعبية من إدريس إلى القذافي.
جاء القذافي وقد حاز الشرعية الشعبية إذن
.. وصار يمثل سلطة الأمر الواقع وفق وسيلة الانقلاب السلمي الرائج استخدامها
حينذاك كصيغة مرتجلة للتداول السلمي أو شبه السلمي على السلطة .. وعام 1977م تنازل
مختارا عن السلطة للشعب وظل يؤكد على ذلك حتى نهاية عهده التي شهدت مظاهرات تحولت
إلى حراك مسلح ضده وضد حاشيته ضحى فيه جزء لا بأس به من الشعب بأبنائه .. وفي ذلك
سحب واضح للشرعية الشعبية منه وتأكد هذا السحب بالترحيب بالمرحلة الجديدة في
بدايتها .. أما الشرعية القانونية إن وجدت فقد تخلى القذافي عنها منذ عام 1977م ..
بالإضافة إلى ما يحوم حول الوسيلة التي استولى بها على الحكم من شبهات.
وهكذا فليس لأي أسرة من الأسرتين ولا
لغيرهما الإدعاء بما يسمى بالحق الشرعي في حكم ليبيا.
نأتي إلى الحديث عن الدستور الذي يدندن حول
شرعيته كثيرا : (دستور 1951 ، دستور 1963).
أولا : نحتاج تصحيح خطأ يبدو متعمدا يتمثل
في القول بأن ما جرى عام 1963 عبارة عن تعديل دستوري .. إن المتأمل للصيغة الجديدة
يجد نفسه إزاء دستور جديد .. فالتغيير كان جوهريا نقل الدولة من الشكل الفيدرالي
إلى شكل الدولة الموحدة .. وثمة مواد ملغاة وقد ثبتت أرقامها وحذفت نصوصها .. (وما
يفعل المرء بالأرقام وقد ضاعت نصوصها؟!) .. وثمة مواد مضافة .. وبإحصاء بسيط نلاحظ
أن عدد المواد المحذوفة هو 36 مادة .. وبما أن عدد مواد دستور 1951 هو 213 مادة
فمن المتوقع أن يكون عدد مواد دستور 1963 هو 213 ــ 36 = 177مادة .. ولكن عدد مواد
دستور 1963 هو 186مادة .. إذن تم حذف 36 مادة وإضافة 9 مواد .. وهناك تعديلات
جزئية جوهرية أخرى .. بالإضافة إلى ما جاء في القانون رقم 1 لسنة 1963 ذي العلاقة
الذي لا نعرف عنه شيئا .. وهكذا فمن
المغالطة القول بأن الذي حدث عام 1963 مجرد تعديل بسيط وليس دستورا جديدا.
ثانيا
: هذان الدستوران لم يقرا باستفتاء شعبي .. ولم تضعهما لجنة منتخبة خصيصا لهذا
الغرض.
ثالثا
: أما فيما يتعلق باستمرار شرعيتهما فقد سقطت بسقوط النظام الملكي ليس على يد
القذافي بل على يد الملك نفسه .. فالدستوران ساقطان بهذه الترتيبات الدرامية
والصادرة عن السلطة التي قامت باعتمادهما أصلا والمتمثلة في الملك المستقيل
والبرلمان المنتهي الصلاحية والتي لم تفرز بديلها.
رابعا
: في حالة الأخذ بأحدهما لا اعترافا بشرعيته إذ لا شرعية له بل كسلا عن صياغة
دستور جديد فمن الصعوبة بمكان إزالة شبح الملك منه .. إن الجهد المبذول في ذلك
يعادل بل يفوق الجهد الذي يبذل في صياغة دستور جديد .. كما أن أي لجنة تشكل على
مستوى ليبيا لتعديل أي دستور سابق أو لصياغة دستور جديد سوف تواجه العرقلة ذاتها
التي واجهتها لجنة الستين الحالية بفعل حدة المخاوف الجهوية .. والعرقلة ذاتها سوف
تواجهها أي مسودة تطرح للاستفتاء قد تصدر عن هذه اللجنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق