الاثنين، 5 سبتمبر 2016

أكاسيد السياسة



أكاسيد السياسة


بمناسبة الحديث الساذج والظالم عما يسمى بالمصالحة

       يقال : لا توجد في السياسية عداوة دائمة ولا صداقة دائمة ولكن مصالح دائمة .. فهل هذا المبدأ صحيح بالمطلق؟ .. يمكن أن يكون صحيحا إذا صدقنا بوجود صراع سياسي بحت خال أو شبه خال من الشوائب الأخرى .. والصراع السياسي الأقرب إلى هذا هو صراع سلمي بين أفراد أو جماعات سياسية أحزاب مثلا وموضوعه كرسي السلطة (الانتخابات الأمريكية أقرب مثال) .. ولكن السياسة (وخاصة المطهمة بالعنف) مثل الحديد الذي لا يوجد في الطبيعة بحالة نقية بل يوجد على هيئة مركبات كيميائية .. ومن هذا التشبيه يمكننا الحديث عما يمكن تسميته بأكاسيد السياسة .. أي السياسة في مركباتها الجغرافية والتاريخية والدينية والاجتماعية والاقتصادية .. وفي أكاسيد السياسة هذه ثمة عداوة إن لم تكن دائمة فمتجددة أو طويلة الأجل.

العداوة الدائمة حقيقة

       ليتضح المقال بالمثال ندرس تاريخ علاقة أوروبا منذ ما قبل هانيبال مع ما يعرف الآن بالوطن العربي .. فهذه العلاقة في إطارها العام على مدى هذه القرون المتطاولة علاقة عدائية على أقصى وأقسى درجات العداوة : إذا قويت أوروبا زحفت جنوبا وإذا قوي الجنوب زحف شمالا .. وكم كرر التاريخ نفسه لينبهنا إلى هذه الحقيقة المرة .. قارن في المقابل وعلى سبيل المثال العلاقة بين مصر وبرقة كعلاقة تمثل نموذجا لحسن الجوار وتبادل المصالح .. إنها المقارنة بين سبتيموس سفيروس وشيشنق على الترتيب .. هذه المقارنة تؤكد على غلبة العداء في العلاقة الأولى على صراع المصالح  .. أما العلاقة الثانية فهي تؤيد أحمد شوقي وتجيب على سؤاله الذي طرحه في قصيدته في رثاء عمر المختار :
ما ضر لو جعلوا العلاقة في غد           بين الشعوب مودة وإخاء ؟

لا للمصالحة .. نعم للمعالجة

        إذا رأيت رجلين يتشاجران فهل تطلب منهما التوقف وأن يحتضن كل منهما الآخر وتكتفي بهذا وتنصرف؟ .. ربما إذا مارست شيئا من الضغط سوف ينفذان أمرك ولكن بمجرد أن تنصرف سوف يعودان للشجار والعنف مرة أخرى .. التصرف المتوقع والمجدي ليس الاكتفاء بدعوتهما للعناق وللتسامح بل سؤالهما عن سبب شجارهما .. ومن ثم يكون البحث في معالجة الأمر وقد تجد نفسك منضما إلى أحدهما إذا اقتنعت بعدالة أو وجاهة موقفه .. فالناس لا تتقاتل بلا مبرر وخاصة إذا كان الاقتتال بين جماعات كبيرة ولفترات زمنية متطاولة وهو ما يمكن تسميته بالصراع الأهلي أو الحرب الأهلية .. ولا يدفع بنظرية المؤامرة والتدخل الخارجي الذي لا يكون ولا ينجح إلا بوجود بذرة الصراع المحلية : ينبغي وجود فتنة أولا .. نائمة ثانيا .. لتوقظ ثالثا .. وفي (ثالثا) فقط ثمة حيز للتآمر .. فنسبة المؤامرة لا تتجاوز الثلث والثلث كثير.
       وصف الصراع الأهلي بالصراع السياسي وصف خادع لأن نسبة السياسة فيه متدنية جدا .. إنه قليل من السياسية مع كثير من المركبات أو العناصر الأخرى .. والمبدأ الذي يتحدث عن المصالح الدائمة والعداوة أو الصداقة المرحلية لا يعمل هنا .. هنا لابد من معالجة الأسباب برؤية مستقبلية معالجة عادلة وشفافة .. بعبارة أخرى قتل الفتنة لا (التهواي) عليها لتخلد إلى النوم لتستيقظ ذات يوم أو ذات مصيبة وهي في كامل نشاطها.

خطورة (الحتحات) 

        تكرر استخدام هذا (الحتحات علي ما فات) يقتل في الشعب روح التضامن والنخوة .. فمادام إلغاء تضحيات الناس من أجل ما يرونه حقا وعدلا بهذه العبارة واردا وبقوة فإن الأجيال تكتسب بمرور الزمن مزيدا من بلادة الحس ويتعزز الأخذ بالمبدأ القائل : (خطا راسي وقص) .. وقد يترتب على ذلك تقاعس الأجيال القادمة عن الدفاع عن الوطن حتى في حالة الغزو الخارجي.
       لو كان عمر المختار يتوقع أن يضرب بجهده وجهاده وبعشرات الآلاف الذين قضوا في العقيلة والمقرون والبريقة عرض الحائط بهذا الحتحات الذي اتخذ بقرار من الملك إدريس الذي لم يفقد أحدا من أسرته ولا من أقاربه في تلك الحرب ولم تطاله نارها .. بل ويصل به الاستخفاف والسخرية من المعاناة والدماء والدموع أن يوافق (وهو قائد جيش تحرير ليبيا من الطليان) على دستور يساوي بين أبناء الجلاد الإيطالي وأبناء الضحية البرقاوي .. بل ويمنح الطليان أفضل الفرص الاستثمارية في العاصمة .. لو كان عمر المختار ومن معه يتوقعون ذلك ترى هل كانوا ليستجيبوا لتحريض السنوسيين لإقحامهم في حرب يعلم السنوسيون أنفسهم بأنها عبثية؟.
        غلطة الملك إدريس (إلا إذا كان معصوما) تتلخص كما يبدو في تعامله مع تضحيات البراوقة إبان الغزو الإيطالي باعتبارها نتاج صراع أحمق بين قبائل محلية : المرابطين والسعادي على الأغلب في جهة وقبيلة الطليان في جهة أخرى .. ونظر كما يبدو أيضا إلى غراتسياني باعتباره شيخ قبيلة الطليان إحدى القبائل الشريفة المجاهدة .. وقد كانت قراءة ساذجة وظالمة ومستهترة بالتأكيد .. وجاء الدستور (دستور الأجداد؟؟) ليؤكد عليها .. وبذلك صار من المتوقع النظر إلى من يذكر بمعتقلات البريقة والعقيلة وجهاد عمر المختار ورفاقه باعتباره مقلبا للدفاتر القديمة .. مثيرا للفتنة ومهددا للسلم الاجتماعي.
       السياسي الذي لا يميز بين السياسة النقية وأكاسيدها أي (خام السياسة) يعرض رصيده الشعبي والتاريخي للضياع .. وربما هذا ما جعل حكم الملك إدريس قصيرا .. وقد خرجت ضده المظاهرات السلمية في برقة وسقط فيها ضحايا في شهر رمضان 1383 هـ يناير 1964 م وتكررت في الأعوام التالية .. وما جعل شعبية القذافي كبيرة في البداية على الأقل لأنه بدأ بمعالجة هذه الغلطة تحديدا .. ثم تدنت شعبيته بمرور الزمن فخرجت ضده المظاهرات وفي برقة أيضا .. واختلاف حجم التظاهرات بين الواقعتين أو العهدين ربما لأنه لم يوجد في المرة الأولى لا الفيسبوك ولا قناة الجزيرة.
        تبقى كلمة وإن كانت لا تغني كثيرا .. فلعل في تحميل الملك إدريس كامل المسئولية تقديما لثلثي الحقيقة .. فمن قراءة مصادر تلك المرحلة يتبين أن من ضمن أسباب توجهه هذا إن الذين تسلموا مقاليد الحكم معه كانوا من كبار التجار ذوي المصلحة في التعامل مع الأجنبي والذين لم يكتووا بنار الحرب وويلاتها ولذلك كان التوجه للاستخفاف بتضحيات الناس وطي الصفحة على علاتها جارفا.

30/8/2016



الجمعة، 24 يونيو 2016

الديناصور والبكتريا

الديناصور والبكتريا
جدل الانفصال والاتصال .. الميكرو والماكرو

      هل الضخامة تعني القوة بالضرورة؟
      كان هذا أحد الأسئلة التي طرحتها البكتريا على الديناصور .. وكانت إجابته الواثقة بالإيجاب.
      ردت البكتريا : موعدنا إذن التغيرات المناخية القادمة.

التدمير الذاتي

      الحضارة الغربية لا تخلو من لمسة شيطانية .. فبعد إيقاظها الفتنة الهاجعة بين مكونات النواة وجعلها تتصارع فيما بينها لاعبة على تعدد تلك المكونات وتنوعها فتنشطر النواة وتدمر نفسها تدميرا ذاتيا متسلسلا فيما يعرف بالقنبلة الذرية وما نشأ عن هذه الأسلحة الفتاكة من تدمير ومآس .. ها نحن نشهد حقبة جديدة من الحروب يمكن تسميتها بحقبة التدمير الذاتي للمجتمعات وفيها محاكاة لما تم مع الذرة .. فما وقود هذا النوع من الحروب؟

طعوم فاقدة الصلاحية

      نحن حيتان وأسماك نعوم في بحر من الأكاذيب وتتراءى لنا طعوم مغرية إن لم تكن مسمومة أو فاقدة الصلاحية فيكفي بأنها طعوم الغرض منها استغلالنا.
     (التعددية والتنوع دليل عافية ومصدر قوة للمجتمع) .. هذا أحد الطعوم .. ربما كان صالحا في حقبة ماضية أما الآن : في حقبة التدمير الذاتي للمجتمعات فهو بالإضافة لكونه طعما وضع بنية خبيثة فأنه فاقد للصلاحية .. في حقبة التدمير الذاتي تعتبر التعددية وقودا لهذا النوع من الحروب .. وهكذا نشاهد ازدهار التطهير العرقي والصراع الجهوي والمذهبي والديني.
     الغرب الذي أغرانا بهذا الطعم أو الشعار : (مديح التعددية) وطعوم أخرى مثل القبول بالآخر وحقوق الإنسان لا يؤمن فيما يبدو بهذه الشعارات (لا الحكومات ولا حتى الشعوب) ولا يطبقها .. هي بالنسبة له على الأغلب شعارات للتصدير وليست للاستهلاك المحلي .. رأينا ذلك في أزمة المهاجرين إلى أوروبا الذين ما هاجروا إلا بفعل موجة التدمير الذاتي لمجتمعاتهم بمؤامرات الغرب وألاعيبه .. أو بفعل الفقر الذي ساهم الغرب في خلقه بجشعه ونهبه لمقدرات الآخرين.
      للذين لا يؤمنون بنظرية المؤامرة ندفع بمصطلح بديل ربما يكون أكثر ملاءمة ودقة إنه مصطلح التوظيف .. إن الغرب لا يتآمر علينا .. أي بمعنى لا يختلق أزماتنا بل يوظف بذورها المتمثلة في تناقضاتنا وتعدديتنا ضدنا ويستغلها أيما استغلال .. لعل ثمة من يفكر بأن الحل ليس في الاعتراف بتناقضاتنا بل في تجاهلها أو إنكار وجودها أو محاولة ترويضها فهل ثمة إمكانية لذلك؟.

من وحي التشبيه

ــ إيقاظ الفتنة النائمة بين مكونات النواة له فوائد أيضا.
ــ هذا صحيح .. وتبقى الموازنة بين المفاسد والمنافع.
ــ التفاعلات النووية ليست انشطارا فقط فهناك تفاعلات الاندماج.
ــ وهذا صحيح أيضا .. ولكن كأن الطبيعة تفضل على ما يبدو الانشطار على الاندماج فجعلت شروط الأول أيسر بكثير من شروط الثاني.
ــ تعبير : (الذرة تدمر نفسها) ليس دقيقا.
ــ التدمير المقصود لا يعني الفناء بل يعني التحول .. فقد يتحول الزئبق إلى ذهب.
ــ الانشطار مطلب استعماري.
ــ ليس هذا صحيحا على إطلاقه .. جامعة الدول العربية وإلغاء الفيدرالية في ليبيا وبقاء الهند موحدة تحت الاستعمار البريطاني وتقسمها بعد خروجه  وغير ذلك أمثلة تدحض ما تقول .. ثم ليس المهم ما يريده الاستعمار بل ما نريده نحن .. ولا ينبغي أن نبحث عن مخالفته لمجرد المخالفة.
ــ وماذا عن الضخامة بمنظور الطبيعة؟
ــ يكفي أن تعلم أن النجوم المسماة بالسوبرنوفا قصيرة العمر لضخامتها المفرطة.
ــ أستطيع تذكر أمثلة كثيرة على العكس.
ــ الحجة عاهرة كما تعلم!!.

عودة لموضوع التشبيه

      وهكذا نجد البلدان الضخمة غير المتجانسة سكانيا تعاني والبلدان الصغيرة المتجانسة تزدهر .. وفي ذلك أثبات للمبدأ من وجهيه.
     ألا ترى على سبيل المثال كيف تستطيع قطر هذه الدولة الميكرو أن تعبث بالأمن القومي لمصر الدولة الماكرو بمقاييس العراقة والجغرافيا والديموغرافيا بينما لا تستطيع مصر أن تعبث بالأمن القومي القطري؟ .. هنا الميكرو في مواجهة الماكرو والغلبة للأول لخلوه من فيروس التعددية.
      ثم أن حدود الدول ليس (كما يقال في الفقه الإسلامي) أمرا توقيفيا .. رأينا كيف صارت سنغافورة بعد طردها من الاتحاد الفيدرالي الماليزي وهي في حجم بلدية ليبية وكيف صارت تشيكوسلوفاكيا الصغيرة جغرافيا أصلا دولتين ولم تقم القيامة بعد .. بل ربما قامت القيامة بالفعل لو ظهر تيار أحمق فاعل في تشيكوسلوفاكيا يمنع التقسيم بحجة اللحمة الوطنية! .. وحتى في بريطانيا صاحبة المبدأ : (فرق تسد) كادت اسكوتلندا أن تنفصل .. بل إن بريطانيا هاهي تخرج من الاتحاد الأوروبي (*) الذي بهر به العرب كثيرا .. إنه جدل الانفصال والاتصال كل حسب مصالحه وظروفه .. والمهم فيه مراعاة رغبات الناس ديمقراطيا.
     خيمة الوطن خيمة مطاطية فلا تبالغوا في مطها لكي لا تتمزق.. وقوة الأوطان ليست بالكيلومترات المربعة التي تغطيها هذه الخيمة بل بدرجة الوئام والانسجام والتجانس .. ولا تصدقوا بأن التعددية والتنوع مصدر قوة على الأقل في هذه الحقبة.
     وحلت التغيرات المناخية المرتقبة فصمدت البكتريا وانقرض الديناصور.

12/6/2016

...........................................................

(*) عدلت في هذا الموضع من المقال بعد ظهور نتيجة الاستفتاء في بريطانيا وكان التعديل بتاريخ النشر : اليوم 25/6/2016

محتويات المدونة (الفهرس)

 بدون ترقيم ولكن ترتيبه في النشر يأتي بعد المقال رقم 42 محتويات المدونة (الفهرس)      ملاحظة : تاريخيا من الأقدم إلى الأحدث أنشأت ثلاث م...