الثورة
دالة في الزمن
الدالة كمصطلح مستعار
الدالة مصطلح من عالم الرياضيات البديع و من
لغته المرهفة .. و الدوال الزمنية فرع منها .. و يمكن لنا أن نكتشف نظائر لها في
عوالم أخرى و لكن بشيء من التصرف و التبسيط لمفهوم الدالة .. ففي الرياضة هناك
ألعاب محكومة بالوقت مثل مباراة كرة القدم فأنت فيها تلعب ضد خصمين : الفريق
المنافس و الوقت .. و مسابقات العدو مثلا محكومة بزمن أيضا هو زمن أفضل رقم قياسي
تم تسجيله .. بعيدا عن الرياضة نجد الامتحانات محكومة بالزمن أيضا .. و عموما يندر أن يواجه المرء
تحديا جديا لا يكون الزمن خصما أساسيا فيه.
هل الثورة دالة في الزمن؟
السؤال بصيغة ثانية : هل الثورة فعل ممتد في
زمن مفتوح مثل مباراة اسكمبيل من ستة شياب حيث تركب اللصوص على التريس بين الحين و
الآخر ؟
بصيغة ثالثة كم يكون الحد الأقصى من السنين
الذي إذا تجاوزته الثورة صارت حالة من العبث؟
بصيغة رابعة : لو استقرت الصومال مثلا بعد
هذا الصراع الذي تجاوز العقدين من الزمن و الذي ادعى في بدايته صفة الثورة .. لو
تحقق هذا الاستقرار اليوم هل يتوقع من الصوماليين أن يسارعوا لإقامة التماثيل
لأولئك الذين بدءوا هذا الصراع منذ أكثر من عقدين؟ أم سوف يصبون عليهم اللعنات
الثقيلة؟
بمعنى آخر هل ثمة أهمية ما للسؤال (متى تحقق
الثورة أهدافها) أم أنه من المهم أن تحقق الثورة أهدافها في أي زمن طال أم قصر؟
كيف يسرق الثوار جهد الحتمية
إن جعل الثورة تجريبا في زمن مفتوح يجعل كل
الثورات ناجحة بالضرورة .. حيث يجير الثوار جهد الحتمية لصالحهم و يعتبرون كل تقدم
حتمي بفضلهم و فضل ثورتهم المجيدة .. و لكي لا يحدث هذا التجيير أو السرقة ينبغي
أن تكون الثورة دالة في الزمن.
و فعل السرقة هذا ليس فعلا
نظريا بل قد حدث كثيرا و لدينا مثال واضح هو الثورة الفرنسية التي نسبت إليها
إنجازات بلا حق .. و قيل أن فرنسا بل أوروبا بل العالم مدين لهذه الثورة .. و كان
هذا التزوير بالحيلة المعتادة و ذلك بإلغاء السقف الزمني لكي تحقق الثورة أهدافها .. و هكذا استولت الثورة الفرنسية على ما كان على الحتمية أن
تنجزه بهذه الثورة و بدونها .. (إذ لابد من فرنسا و إن طال النضال!!) .. فهذه
الثورة أعقبتها انتكاسات مشينة و هي و إن رفعت شعارات إنسانية عظيمة .. فتلك الشعارات كانت
مطروحة قبلها و ما رفعها ثوارها عاليا إلا ليلقوا بها أرضا كما أثبتت الأحداث.
الحيلة القديمة
الإفلات من الزمن هي حيلة الثوار الذين
اكتسبوا بمرور الزمن قدرا من الدهاء و هي الحيلة المفضلة لصناع النبوات .. إن صانع
النبوة لا يقل دهاء عن الثائر المتكلس و هو يعرف أن النبوة قد تكون حافزا لمصدقيها
لجعلها حقيقة .. فالمؤمن بصدق نبوة ما يعمل على تحقيقها .. و هكذا تنعكس الآية
فبدلا من يقود تحقق النبوة إلى تصديقها يقود الإيمان بصدقها إلى العمل على تحقيقها
.. و لكن المهم في هذا السياق هو جعل النبوة بلا تاريخ محدد لتحققها .. أي عدم جعل النبوة دالة في الزمن
.. ما يجعلها حالة من الانتظار المفتوح .. و هكذا و بهذه الحيلة تكون كل النبوات
صادقة بالضرورة و لا وجود لنبوة كاذبة في مغالطة واضحة تشبه خدع و ألاعيب
المشعوذين .. هذا يشبه شعار (الثورة مستمرة) .. و من طريف ما يذكر هنا أن
بعض الليبيين يعتبر كلمة (مستمرة) مشتقة من المرارة لا من الاستمرار من قبيل
التهكم .. و للغة عبثها الخاص.
أعراض فشل الثورات
حينما يضيق الزمن الخناق على الثائر يحتال
للهروب منه .. و هناك شعارات أو معاذير معتادة ترفع في هذه الحالة .. و حينما يبدأ
الثوار في رفعها فتلك علامة دالة على الفشل.
من هذه الشعارات المعاذير : (الثورة
مستمرة) .. إن الثائر بهذا يريد أن يجعل فعله بلا سقف زمني .. مباراة اسكمبيل مملة
.. يفعل الثائر ذلك إما محافظة على مكاسب مادية و معنوية قد تحصل عليها أو تغطية
على جهله و غبائه و عجزه .. و من الشعارات المعاذير أيضا : (تركة النظام السابق
كانت ثقيلة) .. إن الثائر الداهية هنا يحاول أن يستر عورته بكشف عورات النظام
السابق المزعومة .. (هناك ثورة مضادة) .. (ضرورة القيام بحركة تصحيحية) .. (الثورة سرقت) .. و يبدأ الثائر
طقوسا مضحكة يمثل فيها دور الباحث عن اللص المزعوم .. (تفاءلوا خيرا تجدوه) ..
(الخير جاي) .. (ضرورة إبراز الطاقة الإيجابية) .. (لا بد من الصبر) .. و ينسى أنه
حينما قام بمغامرته (ثورته) لم يتفاءل و لم يصبر
بل سخر ممن دعاه لذلك و ضرب بطاقته الإيجابية عرض الوطن!.
عذر أقبح من ذنب
و هناك معاذير أخرى لا تقل وقاحة عن سابقتها
منها :
الدفع أو التبرير بأن هذه التداعيات السيئة
للثورة هي نتائج طبيعية و متوقعة .. و يترتب
على هذا التبرير أمران على الأقل :
الأول : إذا صدر من
أحد المشاركين في الثورة فإنه يضع نفسه تحت طائلة المساءلة القانونية :
(كيف تشارك في عمل تعلم مسبقا أنه سوف يجر
كل هذه الأضرار و المآسي على الوطن و المواطن و دون استفتاء الناس في ذلك؟) .. إنه
عذر أقبح من ذنب .. أما كيف يكون الاستفتاء .. فالأمر في منتهى البساطة .. قف في الساحة
و انظر أيأتي إليك الناس أم يعزفون عن المجيء .. و إذا أتوا أيزداد عددهم أم
يتناقص .. و على ذلك ينبغي الالتزام بنتائج الاستفتاء و احترامها من قبل صاحب
الدعوة للتغيير .. لا يعترض قائلا : (سوف أقمع) .. إذ لا توجد سلطة في هذا العصر
مهما بلغ جبروتها تستطيع قمع الاحتجاج
السلمي إذا كان متعلقا بقضية تحظى بالإجماع .. على مستوى ليبيا (انظر مقال 2 : آه
لو أن الحكمة ليبية).
الثاني : هذا التبرير
يعني أن كل الثورات ناجحة بالضرورة و لا وجود لمسمى ثورة فاشلة مادام لدى من يدفع
به اقتناع بأن كل هذه التداعيات طبيعية و لا تعد عيبا و لا مأخذا .. و هذه مغالطة أخرى.
لا بد من ليبيا و إن طال النضال
و لكن كم الطول الأقصى لهذا
النضال ليظل نضالا و لا يتحول إلى نوع من العبث أو سرقة لجهد التطور التدريجي
الحتمي؟ .. هذا سؤال السقف الزمني.
عبارة (لابد من ليبيا و إن طال النضال أو
السفر) تقول بطريقة غير مباشرة أنه ليس ثمة ضرورة لكل هذا العنف الأهوج منذ فبراير
2011 حتى الآن .. فالتغيير نحو الأفضل كما يفهم من هذه العبارة قادم بعنف أو بدونه
و ربما اللجوء إلى العنف يؤخره .. إن هذه العبارة تعبر عن تناقض ذاتي خفي .. فقد قيلت في موقف ثوري و لكنها
تحمل في ذاتها دعوة للاعتراف بالتطور السلمي التدريجي و الحتمي الذي لا يرى ضرورة
للتدخلات التعسفية.
المقياس الرباعي
يتم التركيز دائما حين
الحديث عن الثورات من قبل مؤيديها على أهدافها .. و تقاس الثورات في رأي هؤلاء
بأهدافها و هو مقياس خادع .. كما أن البعض منهم يقيس الثورات بحجم التضحيات .. وعليه فإن الثورات الأكثر دموية
في رأيهم هي الثورات الأجدر بالتقدير .. وهذا مقياس خادع أيضا.
العبرة ليست بأهداف الثورة فقط حيث (الطريق
إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة) .. و لا يدفع بالقول بأن الأعمال بالنيات .. إذ
لو أخذنا بهذه المقولة لوضعنا مصيرنا في أيدي المغامرين ذوي النوايا الحسنة أو
الذين يتظاهرون بحسن النية .. و لصرنا حقلا للتجارب باستمرار .. و ليست العبرة
بحجم الدماء و عدد القتلى .. فقد تقود هستيريا الجموع للموت المجاني بل المدمر
لنسيج المجتمع على المدى الطويل .. فالثورات مثل النساء "أقلهن مهرا أكثرهن بركة".
إذن لابد من مقياس شامل يراعي كل المفردات
المرتبطة بالثورة و هي المفردات الأربع : التوقيت و الأهداف و الوسائل و الزمن
المستغرق لكي تحقق الثورة أهدافها .. و على ذلك فالثورة (التي تستحق أن تسمى ثورة
و أن توصف بالنجاح) :
حركة تغيير نحو الأفضل تكسر وتيرة التطور السلمي التدريجي في : (1) توقيت
مناسب ينبغي أن يوافق : أولا وصول منحنى الاحتقان أعلى مستوى له .. و ثانيا أن
تكون هذه الوتيرة في أبطأ سرعاتها .. (2) و أن تسعى للوصول لأهداف واضحة تحظى
بإجماع المجتمع .. (3) و تستخدم لذلك أنظف الوسائل التي تتمتع بالغطاء الأخلاقي
اللازم .. (4) و أن تحقق أهدافها في زمن أقصر كثيرا من الزمن الذي يستغرقه التطور
السلمي التدريجي و الحتمي لتحقيقها .. و هذا الشرط الأخير يعني أن تكون دالة في
الزمن.
فماذا عما حدث في ليبيا عام 2011 وفق هذا
المقياس؟ .. بالنسبة للتوقيت : أولا : هل كان منحنى الاحتقان في ليبيا عام 2011 في
أعلى نقطة له؟ .. المتتبع للشأن الليبي يعرف أن أعلى نقطة بلغها منحنى الاحتقان لم
تكن في عام 2011 بل في عام 1988 (انظر مقال 6 : الغرابيل المعلقة).
ثانيا : هل كانت وتيرة التطور السلمي و التدريجي
في أبطا سرعاتها؟ .. يمكن الجزم بالنفي ..
هل كانت الوسائل مغطاة أخلاقيا؟ .. يمكن الجزم بالنفي .. هل كان المشاركون متفقين
على رؤية واضحة تحظى بالإجماع لليبيا ما بعد القذافي حتى نطرح سؤال الأهداف و
النتائج و الزمن اللازم لتحقيقها؟ .. يمكن الجزم بالنفي أيضا .. باستثناء التخلص
من القذافي في شخصه (و هو هدف مشكوك في الإجماع حوله) .. فهؤلاء كانوا كما يبدو
أقلية .. يؤكد ذلك هذا الإصرار على قانون العزل و إنشاء ما يسمى بهيئة النزاهة و
الوطنية .. و يؤكده أيضا وجود أكثر من نصف الشعب الليبي بين مهجرين و نازحين و
معتقلين باعتبارهم معارضة بالإضافة لمن يخفون معارضتهم و أولئك الذين يقفون على
الحياد .. كما أن في إخفاء قبر القذافي اعترافا ضمنيا بشعبيته (لم يخفِ العراقيون
مثلا قبر صدام و أيضا لم يسموا ما فعلوه ثورة و لم يحتفلوا بتحرير بغداد!) .. يضاف
إلى ذلك عدم وجود رؤية أو أهداف مشتركة تجمع كل من شاركوا في إسقاط القذافي .. فهم
كوكتيل غير متجانس من علمانيين يخفون علمانيتهم تقية أو نفاقا .. و إسلاميين يخفون
تطرفهم تقية أو نفاقا .. و قبليين و جهويين يتظاهرون بالتحضر .. و طلاب ثأر .. و
لصوص شرفاء!! .. و فوضويين .. و مقلدين استفزتهم النكتة ليبية الصنع على الأرجح و
التي نسبت إلى التوانسة : "واطوا روسكم يا ليبيين نين نشوفوا الرجالة"
.. و أناس يعانون الفراغ فاتخذوا من الحرب وسيلة للتسلية .. و مندسين و انتهازيين
ليبيين و أجانب .. و لذلك لا معنى للسؤال : هل حققت الثورة أهدافها؟ و لا معنى
لبقية الأسئلة ذات العلاقة .. و لعله مما يستحق التوقف هنا تلك الفقرة في اليمين
القانونية الخاصة بأعضاء مجلس النواب و ربما أعضاء المؤتمر الوطني العام أيضا :
"..... و أن أسعى لتحقيق مبادئ و أهداف ثورة السابع عشر من فبراير" ..
فهل ثمة مبادئ مجمع عليها؟ و مالمقصود بهذه الأهداف المتفق عليها سوى قتل القذافي؟
و هذا قد تحقق و هو لا يصلح أن يكون هدفا لحركة بهذا الحجم و الخطورة .. فموت
القذافي كان بالإمكان أن يتكفل به عزرائيل مباشرة و بدون البحث عن ذرائع باهظة
التكلفة.
8/9/2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق