الاثنين، 31 أغسطس 2015

المقال رقم 6 : الغرابيل المعلقة


الغرابيل المعلقة


      تصاعدت شعبية القذافي سريعا في البداية حينما تم إجلاء القواعد الأجنبية(*) .. و طرد الجالية الإيطالية في غرب البلاد .. الجالية التي ساوى دستور المملكة المفرط في التسامح بين أبنائها و أبناء الليبيين .. ضاربا عرض الحائط بكل ما لاقى الليبيون من إيطاليا من تنكيل .. و كذلك حينما قام بإغلاق دور الدعارة و منع بيع الخمور .. و كلها مما كان متاحا بحكم القانون في عهد الملك الصالح رحمه الله .. و قيامه ببعض الخطوات التي كانت غاياتها المعلنة التأميم و كذلك محاربة التفاوت الطبقي و الفساد الذي كان تناوله معلنا في الإعلام الليبي حتى في العهد الملكي .. و ما قصيدة جعفر الحبوني إلا مثال على ذلك حينما طرح تساؤله الشهير :
وين ثروة البترول يا سمساره     اللي في الجرايد نسمعوا باخباره؟
     و حتى بعض رجال العهد الملكي لا ينكرون الحاجة للتغيير .. يقول الأستاذ مصطفى أحمد بن حليم :
      "هؤلاء الضباط يقولون أن هدفهم هو اقتلاع الفساد و إصلاح أمور الوطن فلماذا لا نعطيهم فرصة و نتمنى لهم التوفيق"  كتاب صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي .. مذكرات رئيس وزراء ليبيا الأسبق مصطفى أحمد بن حليم  ص 541
       و ذلك الارتفاع السريع في الشعبية يرى فيه البعض تأكيدا على أن ثمة حاجة محلية حينذاك للتغيير بغض النظر عن وجود استغلال أو توظيف من هذا الطرف الخارجي أو ذاك لهذه الحاجة من عدمه .. هذه الشعبية أخذت في التراجع بعد ذلك و وصل منحنى الاحتقان أعلى نقطة له (النقطة الحرجة) أواخر فبراير 1988 و لذلك فجر القذافي مفاجآته الاستباقية المتلاحقة : من إطلاق سراح السجناء (أصبح الصبح) .. و إنهاء الحرب في تشاد .. و تمزيق قوائم الممنوعين من السفر .. و فتح الحدود .. و السماح للأشخاص بممارسة النشاط التجاري .. و محاولة الاعتراف ببعض الحقوق الإنسانية في وثيقة مكتوبة .. ثم بعدها بفترة قصيرة إلغاء محكمة الشعب سيئة الصيت .. و السماح للبث الفضائي دون قيود .. و غير ذلك من الخطوات التي أدت إلى تراجع منحنى الاحتقان إلى حده الأدنى .. و هو و إن عاد تدريجيا للارتفاع مرة أخرى لم يصل إلى النقطة الحرجة السابقة .. بل استمر في الارتفاع حتى عام 2003 (سقوط نظام صدام) .. ثم بدأ في التراجع بفعل الانفراج الملموس في كثير من الملفات الداخلية و الخارجية .. و هكذا لم تتزامن التجربة السبطشية مع بلوغ منحنى الاحتقان نقطته الحرجة .. و هذا أحد المفاتيح لفهم مآزقها العديدة.
     باستغلال حقل الكمبيوتر في التشبيه فإن الذاكرة الليبية الرام RAM صغيرة الحجم جدا بحيث تتعامل بانتقائية مع الأحداث .. فالمملكة من منظور السباترة لا حسنات لها إطلاقا .. و السباترة من منظور السباطشة لا حسنات لهم إطلاقا .. و قبل هاتين الموجتين قال القرمانليون بأن الأتراك لا حسنات لهم إطلاقا .. ثم استعاد الأتراك ليبيا ليقولوا عن القرمانليين مثل قولهم .. ليأتي الطليان فيمسحون ما قبلهم تمهيدا لإضفاء الصبغة الرومانية .. و هذا ما يجعل تاريخ ليبيا حلقات منفصلة .. و يجعله سلسلة من البدايات الصفرية .. و لكل موجة من هذه الموجات المتنافرة كان ثمة ليبي يصفق و يؤلف الأناشيد و المدائح .. أي كان ثمة ليبي مستعد لتعليق الغرابيل(**).  
       بالمقارنة بين الغربالين .. فأيهما سيحظى بفترة تعليق أطول؟ .. لقد علق غربال السباترة في البداية فقط لمدة لا تقل عن سبع سنوات و هي فترة تصاعد الشعبية .. فكم من الزمن سوف يظل غربال السباطشة معلقا على الجدار؟ أم أنه قد بدأ رحلة الإنزال؟.  
       و لأن شنآن السباترة يدفع السباطشة لعدم العدل و للبعد عن الإنصاف .. فسوف يحاكم هؤلاء الأخيرون بالميزان ذاته .. لأنه ببساطة كما تدين تدان .. و لأن العقل الليبي على الضفة الأخرى هو نفسه .. و الذاكرة الليبية لا تقبل التطوير .. كما أن السباطشة قد ارتكبوا و يرتكبون أخطاء شنيعة .. ثم أن غلو الليبي يدفعه أحيانا لأن يمعن في التنكيل بالحاضر و ذلك بالمبالغة في التغني بالماضي : فالذين يتغنون في عهد السباترة بعهد الملك الصالح كما يلقبونه لعلهم هم أنفسهم من كانوا يهتفون في العهد الملكي : (حكم إبليس و لا حكم إدريس) .. أو لعل منهم من قال : (اقتلني يا سمن البقر) ردا على القذافي حينما حذر من عودة الملك.. و عبارة أو دعاء سمن البقر القاتل يتململ محاولا الخروج الآن ردا على من يحذر من عودة الأزلام  في مفارقة ليبية بامتياز.
26/10/2012
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) يقلل بعض السباطشة من أهمية ذلك بالقول بأن تلك القواعد كانت ستطرد على أية حال بانتهاء مدة العقد .. و هذا ليس صحيحا .. فلم يكن متوقعا لا من الملك  و لا متوقعا من أحد من رجاله الطلب الجاد من القواعد بالرحيل .. فالملك كما يقول بن حليم في كتابه ص 84 ، ص 85 كان يخشى بريطانيا و يؤمن بقدراتها الأسطورية على التنكيل بأعدائها كما أنه كان يشعر أمامها بالعرفان بالجميل .. فإذا كان هذا حال الملك فكيف برجاله؟.

(**) إشارة إلى المثل الشعبي : الغربال الجديد له تعليقه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محتويات المدونة (الفهرس)

 بدون ترقيم ولكن ترتيبه في النشر يأتي بعد المقال رقم 42 محتويات المدونة (الفهرس)      ملاحظة : تاريخيا من الأقدم إلى الأحدث أنشأت ثلاث م...