الاثنين، 31 أغسطس 2015

المقال رقم 8 : الدستور والعنف

الدستور و العنف

   المجتمع الذي يمجد العري ما حاجته لاستيراد الملابس؟
المجتمع الذي يمجد العنف ما حاجته لوضع الدساتير؟
كما تدين تدان
     في الفترة ما بين التجربة العراقية و الثورة التونسية تنامى شعور عام بين العرب باستهجان التغيير بالعنف و من ثم استهجان أطروحة تنظيم القاعدة في التغيير ، و كان اليمنيون أول من تخلى عن هذه الأطروحة رغم التواجد القوي لتنظيم القاعدة في اليمن ، و بنجاح الثورة التونسية ثم الثورة المصرية تأكد لليمنيين و للعرب عامة سقوط تلك الأطروحة و لكن تبني الثورة الليبية لآلية التغيير بالعنف أعاد الاعتبار لأطروحة القاعدة و بث فيها الحياة ما جعل السوريين يختارون النموذج الليبي كنموذجهم المفضل من بين كل الثورات ، و هكذا افتتح الليبيون حقبة دموية جديدة من تاريخ العرب تشبه ما كان في العصور الخوالي ، و لو اقتصر الأمر على هذا لصار بالإمكان تجاوز ما حدث و لكن الأنكأ من ذلك هو هذا الاحتفال الإعلامي بعرس الدم و محاولة تقديمه باعتباره السيناريو الوحيد الممكن للتغيير بل باعتباره السيناريو الأفضل و الأجمل و الأروع (الشعب الذي أبهر العالم!!) ، و النية قائمة لإحياء كل ما حدث في احتفالات سنوية باذخة بالفخر و الأناشيد. فماذا يعني هذا؟
    هذا يعني أن التغيير باستخدام العنف أمر مباح بل جدير بالتقدير و الاحترام و هذا بدوره يعني أن من حق أي فريق أو تيار في ليبيا أن يحتكم للعنف مستقبلا  للوصول إلى أهدافه و أن نسقى مرارا من نفس الكأس التي تجرعها القذافي ، سيقول البعض : كلا ليس من حق أي تيار الاحتكام لاستخدام العنف مستقبلا و سوف ينص في الدستور على تجريم اللجوء للعنف ، أقول : يمكن قبول هذا فقط إذا انتقدنا اللجوء للعنف في الماضي أيضا ، و بما أن الخطاب الإعلامي و الثقافي السائدين الآن يمجدان ما حدث في ثورة 17 فبراير من حمام دم وصل فيه معدل القتل بين أبناء الوطن الواحد إلى أرقام قياسية فإن النص على تجريم اللجوء للعنف في المستقبل لا يكفي إطلاقا و سوف يمثل تناقضا مع هذين الخطابين السائدين و من ثم فإن هذا التجريم المفترض في الدستور المنشود سوف يظل حبرا على ورق ، إن من أخطر ما يتردد الآن مقولة : (هذه الديمقراطية عمدت بالدم ، يقصد بالدم الناتج عن العنف المتبادل طبعا) و نسى من يرددها أن ما يكتسب بهذا النوع من الدم قابل لأن يسلب بالكيفية ذاتها ، و إن ذلك يعني أن نستمر في العوم في بحر الدم إلى الأبد.

ما أشبه الليلة بالبارحة
     أدى سقوط القذافي بالكيفية التي رأيناها إلى تمتع فئة من الليبيين (أقارب الشهداء و نجوم التجربة السبطشية و أمراء الحرب ... الخ) بامتيازات مادية و معنوية معينة ، أولئك الذين يمنون علينا بمساهمتهم الفعالة في خراب ليبيا!!، أولئك المستفيدون سيقاومون ما تطرحه هذه الورقة بقوة حفاظا على امتيازاتهم تلك و سوف يصرون على تمجيد ما حصل و الاحتفال به و يصرون في الوقت نفسه على تجريمه مستقبلا و منع الآخرين من تكراره ، و هذا بالضبط ما وقع مع القذافي: فلقد جاء للحكم بانقلاب عسكري و ظل يحتفل سنويا بذكرى ذلك الانقلاب و يروي قصته و يكرم من شاركوه فيه و يمنحهم الامتيازات و المناصب و مع ذلك نكل بكل من فكر حتى مجرد التفكير في تقليده و إعادة ما فعله بانقلاب عسكري آخر ، تكمن المشكلة إذن في التناقض الناتج عن تحليل الوسيلة لنفسك و تحريمها على الآخرين ، و الاحتفال بالوسيلة يتعارض مع تجريمها.    
و ثمة أسئلة تتبادر للذهن :
1 ــ إلام يستمر الاحتفال بما حدث في ليبيا؟ لسنتين أو لثلاث أو لعشر أو لعشرين ؟ أم يحتفل به لقرون كاحتفال البروتستانت بانتصارهم على الكاثوليك في أيرلندا الشمالية؟ ما يؤدي إلى صدامات سنوية بين الطائفتين تذكر بما كان في القرون الخوالي من عنف و تخلف؟
2 ــ هل يمكن فتح صفحة المستقبل فيما تظل صفحة الماضي مفتوحة؟
3 ــ هل يمكن مدح العنف في الماضي و تجريمه في المستقبل ؟ أي مدحه في الإعلام و تجريمه في الدستور؟
      لا يستقيم إطلاقا هذا التلهف على وضع دستور سوف ينص فيه حتما على منع العنف و تجريمه من جهة و هذا التغني بحمام الدم و هذا العنف الذي وقع في أثناء (الثورة) من جهة أخرى ، أي لا يستقيم الاحتفال بالعنف مع تجريمه ، بمعنى آخر إذا كان احتفال اليمني أو المصري أو التونسي بثورته لا يتعارض مع النص على تجريم العنف في دستوره فإن الوضع بالنسبة لليبي يختلف و عليه أن يتخلى عن أحد الأمرين : إما الاحتفال أو تجريم العنف.  
مقارنة أخرى
      من المقارنة السابقة رأينا تشابه بل تطابق مأزق معمر القذافي مع مأزق التجربة السبطشية من حيث تحليل الوسيلة للنفس و تحريمها على الآخر ، و هنا ثمة مقارنة أخرى ، فباستعراض تجارب التغيير العربية المعاصرة يلاحظ أن التجربة العراقية هي أقرب التجارب شبها بالتجربة السبطشية ، فقد استعانت المعارضة العراقية في الخارج الممثلة لكل أطياف المجتمع بالتدخل الأجنبي لإسقاط نظام صدام حسين و كان العراقيون في الداخل قد قدموا الكثير من الضحايا في انتفاضة الجنوب و في إقليم كردستان العراق الذي نجح بالتمتع بحكم ذاتي قبل سقوط صدام بأكثر من عشر سنوات ، و يتمثل التشابه بين التجربتين في لجوئهما للعنف و الاستعانة بالخارج و لكن التجربة العراقية تتميز باقتصار العنف على الأجنبي و لم يمارس العراقي العنف ضد العراقي بينما في التجربة السبطشية فقد كان العنف من الأجنبي ضد الليبي و من الليبي ضد الليبي و اتخذ طابعا جهويا و مناطقيا.
     و إذا كنا نلاحظ بأن العراقيين لم يتخذوا يوم سقوط صدام و لا يوم إعدامه و لا يوم دخول بغداد عيدا وطنيا فإن النية معقودة عند الليبيين المنتصرين للاحتفال بكل أحداث (الثورة) ، و إذا كان العراقيون لم يمارسوا العنف ضد بعضهم بعضا و مع ذلك رأوا أن من الحكمة طي صفحة ما حدث فنحن و قد تبادلنا العنف المناطقي و الجهوي أحوج من العراقيين بطي هذه الصفحة.  
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن مقال بهذا العنوان بتصرف .. نشر المقال الأصلي بمدونة الأستاذ أحمد الفيتوري (سريب) أواخر نوفمبر 2012  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محتويات المدونة (الفهرس)

 بدون ترقيم ولكن ترتيبه في النشر يأتي بعد المقال رقم 42 محتويات المدونة (الفهرس)      ملاحظة : تاريخيا من الأقدم إلى الأحدث أنشأت ثلاث م...