أدوات
تنغيص ليبية
كوكتيل من النوستالجيا و البراغماتية
التنكيل المعنوي أو الإعلامي واحد من
أهم ملامح الشخصية الليبية و أداة من أدواتها الانتقامية .. و قد أشرت إليه سريعا
في نهاية مقال الغرابيل المعلقة .. و من أنواعه التنكيل بالحاضر بمديح الماضي على
مسمع من الأول .. فإذا صار ذلك الحاضر ماضيا شرع في التباكي عليه نكاية في حاضر
آخر .. و هكذا .. و هو ليس نوستالجيا
خالصة بل فيه من البراغماتية الشيء الكثير .. و هو من الأدوات التي يستخدمها
الليبي لينغص على المنتصر فرحته بانتصاره .. في المقابل هناك مديح الحاضر و ذم
الماضي الذي يتجلى
أثناء تعليق الغربال الجديد .. و الذي تقوم به النخبة التي استولت لتوها على
السلطة و تستدرج العامة لتمارسه معها و تردد شعاراته كالببغاوات.
و هذا الملمح (أي التنكيل أو التنغيص) لا
تنفرد به الشخصية الليبية بل قد نجده عند غيرها من الشخصيات العربية و لكنه عند
الشخصية الليبية أشد وضوحا .. و هذا الملمح ينسجم و يتسق مع نزوع الليبي للبدايات
الصفرية و رفض التراكم.
إخفاء المشترك
لا يقتصر هذا الملمح على مديح حقبة و ذم
أخرى .. بل يكون أحيانا بإخفاء المشترك
بين الحقبتين .. و
مثال المشترك المخفي بين العهد الملكي و عهد السباترة و عهد السباطشة التقاء الملك
إدريس (الملك الصالح) و القذافي على رفض النشاط الحزبي و التوجس منه .. فألغى
الأول الأحزاب و شن الثاني حملة عليها و هي أي الأحزاب مرفوضة في العهد الثالث
(السبطشي) أيضا و قد جسد هذا الرفض قانونيا في انتخابات لجنة الستين و مجلس النواب
.. و مع ذلك أخفى السباترة هذا المشترك و لم يشيروا يوما إلى ما فعله الملك إدريس
رغم أن ما فعله يدعم موقفهم و لا يقر أغلب السباطشة لا للقذافي و لا للملك
بهذا المشترك .. و مثال المشترك بين السباترة و السباطشة الموقف من النظام الملكي
.. فقد ألغي في العهد الأول و هو مرفوض في العهد الثاني عند قطاع من السباطشة .. و
مع ذلك لا أحد منهم يقر للسباترة بذلك و يعترف لهم بفضل تخليصهم من الملكية
الوراثية .. تنبغي الإشارة إلى أن هذا الرفض ليس كرها للأسرة السنوسية بل هو رفض لفكرة
التوريث بالمطلق .. و من أغرب حالاته و أشدها حدة أن يمتدح توجه أو تيار ما في
الماضي و يذم امتداده في الحاضر .. و مثاله الآن التباكي على ضحايا أبو سليم و السخرية
في الوقت ذاته من مشروعهم و من خلفائهم أنصار الشريعة و التنكيل بهم في عدة مواقف
منها جمعة إنقاذ بنغازي و مثيلاتها و في النفور السبطشي العام.
يمكن فهم التباكي في سياق الحقد على
النظام السابق الذي ارتكب تلك الجريمة (مذبحة أبو سليم) و هو بهذا ضمن سياق
التنكيل بالماضي .. أما التنكيل بخلفائهم و بمشروعهم فيبين ضمنا عدم اقتناع
السباطشة بمشروع ضحايا أبو سليم المتباكى عليهم (و هو موقف مشترك مع السباترة) ..
و موقف السباطشة المتناقض هذا جاء بسبب محاولتهم إخفاء هذا المشترك الآخر بينهم و
بين السباترة.
و هذا الإخفاء للمشترك على مدار عهود ليبيا
المختلفة بالإضافة إلى الغلو في هجاء الماضي و مديح الحاضر أو العكس و الولع
بالتصفير (من الصفر) .. كلها خصائص تجعل من الشخصية الليبية شخصية فصامية بصورة ما.
تجدر
الإشارة إلى أن أنصار الشريعة يعدون أحيانا من ضمن نسيج السباطشة .. و لكن تحالفات
التجربة السبطشية كانت كما يبدو تحالفات مرحلية .. و هذا مأزق آخر من مآزقها .. و
لذلك سرعان ما كشف هذا النسيج عن تناقضاته.
و لابد من تسجيل تحفظي على ما عرف بجمع
الإنقاذ كوسيلة لمعالجة مشكلة انتشار السلاح و تناسل المليشيات و إن لم يكن ثمة
خلاف على الهدف المنشود .. فقد أدت إلى طرد المليشيات و دفعها إلى العمل السري
بدلا من حلها.(*)
كما أن في الأمر مفارقة تستحق التأمل : فبينما خرج الليبيون
بالسلاح على دولة قائمة بمؤسسات و أجهزة أمنية محددة الهوية و خاضعة للقانونين
المحلي و الدولي نجدهم يخرجون سلميا على مليشيات مجهولة الهوية و لا تخضع لأي
قانون .. و كان الأحرى القيام بالعكس.(*)
راكل و مركول
و مما يجدر ذكره في هذا المقام هذه
اللطيفة التي لعلها ضمن السياق أيضا :
في سبعينيات القرن الماضي و بعد أن بدأ منحنى
الاحتقان ضد السباترة في الارتفاع .. و في مدينة طبرق على أرجح الروايات .. مر شاب
بضابط أمن في عهد المملكة و قد أحيل في عهد السباترة إلى التقاعد .. كان الضابط
يجلس على كرسي أمام منزله مستمتعا بشمس طبرق اللذيذة .. و كان يغالب النعاس و يبدو
أن النعاس قد انتصر عليه .. ركله الشاب و هو يقول : (انهض .. هذي رقدتك ليلة
الفاتح اللي ركبت علينا القذافي).
و إذا كان رجل الأمن في عهد المملكة قد وجد وقتا للتشمس
الآمن في عهد السباترة فإن نظيره السبتري لم يشفع له وقوفه على الحياد من التجربة
السبطشية بل انضمامه إليها أحيانا و لم ينقذه من الاغتيالات و التصفية مما قد
يدفعه للشعور بالندم .. و لذلك لعل البعض من رجال الأمن يهم الآن بركل البعض الآخر قائلا شيئا مشابها
لما قاله ذاك الشاب الطبرقي.
22/10/2012
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عادت المليشيات للعمل العلني .. و تم التخلي عن مواجهتها بالتظاهر
السلمي كما حدث في ما عرف في انتفاضة 15 أكتوبر 2014 المسلحة في بنغازي!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق