تطوير التظاهر
تصادم المقولات
1 ــ
"الديمقراطية تعني الاحتكام لصندوق الاقتراع"
2 ــ "حق
التظاهر مكفول للمواطن"
3 ــ "الشعب
مصدر السلطات"
هذه المقولات وربما مقولات أخرى تروج
كوصفات لحل مشكل أدوات التغيير في المجتمع والسلطة .. وهذه المقولات تبدو متضاربة
أو ربما يشوبها سوء فهم .. والواقع المعاش يعكس هذا التضارب أو سوء الفهم .. فإذا
أخذنا بالمقولة الأولى واحتكمنا لصندوق الاقتراع فلا يحق لنا الأخذ بالمقولة
الثانية .. أي لا يحق لنا التظاهر ضد السلطة التي أفرزتها صناديق الاقتراع .. ولكن
المدافعين عن حق التظاهر يستندون حسب زعمهم على المقولة الثالثة.
هل هو تناقض أم سوء فهم؟ .. ماذا نعني
بالمقولة : "الشعب
مصدر السلطات"؟ فيبدو أن هذه المقولة هي المقولة المركزية؟ البعض
يفهمها بأنها الاحتكام لصناديق الاقتراع فقط .. وآخرون يفهمونها بأنها أيضا اللجوء
للتظاهر والاعتصام ويبدو من الاستقراء بالعين المجردة بأن الفريق الأخير يمثل
الأغلبية أو يمثل الفريق الأعلى صوتا .. فقد توسع في اللجوء للتظاهر فيما يسمى
بالربيع العربي فأسقطت أنظمة ودمرت أوطان وأقاليم عديدة وصار من الشائع اتهام تلك
المظاهرات بأنها جزء من مؤامرة خارجية.
لن نتناول المثالب الكثيرة والخطيرة التي
تسم الانتخابات (المقولة الأولى) كأهم ملمح من ملامح الديمقراطية التقليدية
بالتفصيل من كونها عرضة دائمة للتزوير وللشراء واقتصار الترشح فيها على الأغنياء
والدور السيئ للأحزاب فيها والدور السيئ أيضا للمال السياسي وكونها لا تعبر دائما
عن إرادة الشعب فقد تتدنى نسبة المشاركة ومع ذلك يؤخذ بنتائجها كما أنها قد تؤدي
إلى اللجوء للعنف وربما إلى الحروب الأهلية .. بل سوف يقتصر الحديث على المقولة
الثانية.
المظاهرة وسيلة تغيير أم تعبير؟
ظل
التظاهر مصدر قلق للسلطات في العصر الحديث وجرت محاولات عديدة من السلطات في
المجتمعات المتقدمة والأقل تقدما وتلك التي تدعي العراقة الديمقراطية وتلك المتهمة
بالاستبداد لمواجهة خطر التظاهر .. من بين تلك المحاولات كان القمع حيث رأينا في
الألفية الثالثة كيف قمعت المظاهرات في فرنسا وبريطانيا وأمريكا وإيران وتركيا
وغيرها .. وأمام التوسع في استخدام هذه الوسيلة وإصرار البعض على جعلها وسيلة
للتغيير لا لمجرد التعبير تم اللجوء لسن القوانين للتحكم فيها .. فظهرت قوانين
تمنع التظاهر وتجرمه ما لم يتحصل المتظاهرون على موافقة الشرطة وربما أحدث هذه القوانين
قانون التظاهر في مصر المثير للجدل والذي يحاول به النظام المصري الجديد الذي جاء
بوسيلة التظاهر ألا يشرب من الكأس نفسها التي سقاها لمرسي وذلك مأزق قديم جديد حيث
يحلل المرء لنفسه ما يحرمه على الآخرين وهو مشابه لمأزق بعض السباطشة بتحليل التدخل
الخارجي سابقا وتحريمه الآن!!.
هنا لابد من التساؤل أولا : هل التظاهر يراد به أن يكون
وسيلة تعبير أم وسيلة تغيير؟
إذا أريد به مجرد وسيلة تعبير فليس ثمة جدوى
منه وربما استعيض عنه بالاستفتاء واستطلاع الرأي وإذا أريد به وسيلة تغيير وهذا ما
يبدو من الواقع المشاهد فقد نسف مقولة الاحتكام إلى صندوق وخصوصا إذا ما وضعنا
مساوئ التظاهر في الاعتبار (سوف نتناول هذه المساوئ لاحقا)
ثانيا : هل من المنطقي أن يكون الأذن بالتظاهر ضد السلطة من
الشرطة والشرطة جزء من السلطة؟ هل من المنطقي أن يسأل المواطن السلطة بأن تسمح له
بالتظاهر ضدها؟ وهل يتوقع منها الموافقة؟
للسلطة مبرراتها المعقولة التي تجعلها تتحكم في حق التظاهر.. ومنها :
1 ــ المظاهرات قد
تكون وسيلة لا ديمقراطية حيث تخرج نسبة صغيرة من الشعب لتفرض رأيها على الأكثرية
.. (رأينا هذا على سبيل المثال في ما سمي بالربيع العربي).
2 ــ قد تكون
المظاهرة وسيلة لابتزاز السلطة من قبل أفراد يتمتعون بإمكانات إعلامية ومالية
كبيرة وقدرات متميزة على إثارة الشارع
وتوجيهه للخروج ضد السلطة لأن هؤلاء الأفراد ربما استخدموا الجماهير أداة لابتزاز
السلطة للظفر ببعض المكاسب الشخصية أو الفئوية.
3 ــ المظاهرات
عرضة للشراء وللاختراق ضمن الصراعات بين القوى الداخلية وقد يتم توظيفها كأداة في
أيدي الاستخبارات الأجنبية.
4 ــ الجماهير في
المظاهرة قابلة للتضليل ومن ثم صفها تحت شعارات لا تعبر في الحقيقة عن مطالبها ..
فالبيان الختامي للمظاهرة يصوغه غالبا القلة من الأفراد المهيمنين ولا يستشار فيه
بقية الحاضرين .. بل قد يفاجأ البعض به ويعتبر موافقا على ما جاء فيه بمجرد أن ثبت
وجوده بالساحة ساعة قراءة البيان.
5 ــ تخرج
المظاهرات غالبا عن السيطرة وتؤدي من ثم إلى العنف وتهديد السلم الاجتماعي وربما
وقعت بها أعمال عنف من قبل مندسين ونسبت ظلما إلى الشرطة.
6 ــ قد تستخدمها
بعض أطراف السلطة في خضم الصراع الدائر بينها.
7 ــ المظاهرات لا
تتقيد بالمكان .. فقد نرى تظاهرة في مدينة ما ويفهم من ذلك أن تلك المدينة معارضة
للسلطة وتتبنى ما جاء في بيان المظاهرة بينما ربما كان المشاركون في تلك المظاهرة
من أبناء المدينة قلة والأغلبية من مدن أخرى وربما من مواطني دول أخرى!! .. وقد
تتحول إلى مجرد وسيلة للتسلية (ولكنها تسلية مزعجة للسلطات) فيجلب إليها حتى
الأطفال.
8 ــ التظاهر حينما
لا يكون وفق مواعيد منتظمة ومحددة سلفا فإنه قد يكون فجائيا وقد يغلب عليه التسرع
والآنية وقد يعبر كثير من المشاركين عن ندمهم بعد حين ولكنه الندم الذي فات أوانه.
هذه المبررات هي ذاتها مساوئ المظاهرات
والتظاهر وهي صحيحة وهي هنا من وجهة نظر الشرطة ولكن ذلك لا يبرر تحكم الشرطة في
التظاهر .. ولا يدفع مؤيد التظاهر قائلا : إنها كلمة حق يراد بها باطل .. فيكفي
أنها كلمة حق بغض النظر عما يراد بها .. ويمكن أن يضاف إليها من وجهة نظر الناس :
9 ــ تخوفا من
توظيف التظاهر لأغراض شخصية أو فئوية أو لأطراف خارجية وتخوفا من استغلالهم من قبل
الأفراد المهيمنين فقد يحجم كثير من الناس عن المشاركة .. وهكذا نحرم من الفوائد
الكثيرة التي يمكن أن تجنى من هذه الوسيلة إذا ما استخدمت بصورة صحيحة ونظيفة.
قد لا يكون الحل بالسماح بالتظاهر كيفما اتفق ولا يكون أيضا بمنع التظاهر
أو طلب الإذن فيه من الأجهزة الأمنية وهي جزء من السلطة المستهدفة غالبا من قبل
المتظاهرين.. فما الحل؟
عولج هذا الإشكال بوسائل أخرى مثل اللجوء
للاستفتاء والاستطلاع وجمع التواقيع ولكن هذه الوسائل تجمع بين بعض مساوئ
الانتخابات ومساوئ التظاهر .. فهما عرضة للتزوير وعرضة للتوجيه والإيحاء المضلل وقد
تكون نسبة المشاركة متدنية ولكن كما يحدث في الانتخابات يؤخذ بها رغم ذلك..
وأحيانا يكون الاستفتاء وسيلة تعبير لا تغيير .. وسيلة استشارية غير ملزمة (رأينا
هذا مؤخرا في اليونان فقد دعت الحكومة مطلع الشهر السابع من العام 2015 إلى
استفتاء الشعب حول الإجراءات التقشفية التي يصر الاتحاد الأوروبي على تطبيقها في
اليونان وقد عبرت النتيجة عن رفض المشاركين في الاستفتاء تلك الإجراءات ولكن
البرلمان قبل بها فقبلت بها الحكومة وصار رأي الشعب في الاستفتاء استشاريا).
حادثة اليونان هذه تطرح مفارقة من أهم وأخطر مفارقات
الديمقراطية التقليدية أو الغربية .. حيث يصير مانح التفويض تابعا وخاضعا لحامل
التفويض .. فقد رأينا البرلمان وهو المفوض من قبل الشعب اليوناني يتبنى ما عبر
الشعب الذي اختاره عن معارضته ورفضه.
ونعود
إلى السؤال : ما الحل؟ مادام السماح بالتظاهر مطلقا أو منعه مطلقا أو التحكم فيه
من ممثلي السلطة أو استبداله بالاستفتاء وما شابهه من الوسائل كلها ليست بالحلول
الوجيهة؟
الحل المقترح
الحل المقترح يدعو للسماح بالتظاهر مطلقا وليكن وسيلة تغيير لا مجرد وسيلة
تعبير .. ليكن التظاهر ملزما لا استشاريا ولكن بعد معالجة مساوئ التظاهر السابق
سردها :
1 ــ ألا يكون
التظاهر آنيا وفجائيا بل يكون في مواعيد محددة سلفا على مدار السنة.
2 ــ أن يلتزم
بالمكان فيتظاهر في كل مكان أهله ولا يسمح بانتقال المتظاهرين من مدنهم وقراهم إلى
مدن وقرى أخرى .. هذا يستلزم وجود تعريفات وبطاقات خاصة تحدد هوية الأشخاص
وانتماءاتهم المكانية وغير ذلك من الإجراءات التنظيمية.
3 ــ أن يعبر بيان
المظاهرة أو توصياتها وقراراتها عن رأي الحضور ولا يكون تعبيرا عن رأي قلة من
الأفراد المهيمنين .. أي أن يضمن استشارتهم جميعا والوصول من ثم إلى صيغة توفيقية.
4 ــ لضمان اقتصار
التظاهر في المكان الواحد على أهله من الراشدين والراشدات وليتاح للجميع المشاركة
في النقاش يجب أن يكون في قاعات لائقة محترمة لا في ساحات مفتوحة يصرخ فيها الناس
كالمجانين ويهيمن فيها ذوو الأصوات المرتفعة لا ذوو الحجج المقنعة.
5 ــ مادام يراد
بالتظاهر أن يكون ملزما فينبغي كإجراء تحوطي ألا تنفذ التوصيات والقرارات فورا بل
تعرض على مجالس خبرة موثوق بها تقول رأيها فيها وتعاد إلى المتظاهرين بعد فترة
زمنية معقولة كل حسب مكانه وفي مواعيد محددة سلفا ليعاد فيها النظر.
6 ــ لمجالس
الخبراء بالإضافة لإبداء الرأي والمشورة غير الملزمة في مطالب الناس (النقطة رقم 5) صلاحية
اقتراح بعض المطالب التي ترى من المفيد تبنيها.
أسمع القارئ الليبي يقول : كأنني التقيت
بهذا الحل من قبل .. أقول نعم وأن أجرى عملية تجميل .. ولكن أيها القارئ دعك من
هذا .. ابحث عن الجوهر .. ابحث عما ينفع الناس ودع عنك الزبد.
أسمع القارئ الليبي يقول أيضا : الحديث
الآن عن تطوير التظاهر في وجود دوي القنابل يعتبر ترفا فكريا.
أقول : من المؤسف أنك أيها القارئ على حق.
هناك تساؤلات أخرى تتعلق بالسلطة التنفيذية
وكيفية اختيارها وما إذا كان ثمة ضرورة لوجود مجالس تشريعية بوجود هذه الصيغة
المتطورة للتظاهر وتساؤلات عن كيفية اختيار مجالس الخبرة وغير ذلك .. وهذه الأسئلة
ليس من الصعب الإجابة عليها ولكن ليس هاهنا مقامها .. فهنا يقتصر الحديث عن تطوير
التظاهر فحسب .. وربما أتطرق لإجابة التساؤلات السابقة في سياق مبادرة تهجس في
النفس لتصور النظام السياسي وشكل الدولة في ليبيا بالإضافة لتصور آخر يتعلق بمشكلة
الحقوق والقصاص والمصالحة .. راجيا أن تحظى هذه المقالة بالنقاش الصريح الجاد
والهادف.
20/8/2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق